لوحة وقصة : تتويج نابليون
الرسام: جاك لويس دافيد
وُلد جاك لويس دافيد في باريس في شهر آب من عام 1748. تُوفّي والده في مبارزة وهو صغير، فتولّى أعمامه تربيته ودعموا طموحه الفني. درس في الأكاديمية الملكية وفاز بجائزة روما عام 1774، ممّا أتاح له التعرّف على آثار إيطاليا الكلاسيكية والتي شكّلت أسس نظرته الفنية والجمالية .
أعماله المبكرة، مثل “قسَم الإخوة هوراتي” في عام 1784، جسّدت النيوكلاسيكية بخطوطها الواضحة وشخصياتها الصارمة ورسائلها الأخلاقية. فلم تكن لوحاته مجرّد فنٍّ جميل، بل جسّدت أيضاً مبادئ الفضيلة والواجب والتضحية.
فيما بعد، أصبح دافيد فاعلاً سياسياً ومن الداعمين الناشطين للثورة الفرنسية وصديقًا لماكسيميليان روبسبيير (1758–1794)، فانضمّ إلى اليعاقبة المتشددين وصوّت على إعدام الملك لويس السادس عشر. وأصبحت لوحته “موت مارا” في عام 1793 رمزًا للشهادة الثورية.
بعد سقوط روبسبيير من السلطة، سُجن دافيد، لكنه عاد لاحقًا كرسّام رسمي لنابليون وخلّد عبر لوحاته الضخمة طموحاته ومجده.
وفي هذه الفترة، طوّر أسلوبه الإمبراطوري الذي تميّز باستخدام الألوان الفينيسية الدافئة. وبعد سقوط نابليون وعودة البوربون إلى الحكم، نفى دافيد نفسه إلى بروكسل، التي كانت آنذاك جزءًا من المملكة المتّحدة لهولندا، وبقي هناك حتى وفاته في كانون الأول من عام 1825.
وكان لدافيد عددٌ كبير من التلاميذ، ممّا جعله من أبرز المؤثّرين في الفن الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر، خصوصًا في مجال الرسم الأكاديمي في الصالونات.
اللوحة: تتويج نابليون (1805–1807) (متحف اللوفر، باريس)
بتكليفٍ مباشر من نابليون، أنجز دافيد لوحةً زيتيةً ضخمة بعنوان “تتويج نابليون”، بلغ ارتفاعها أكثر من ستة أمتار وعرضها تسعة أمتار. تصوّر اللوحة مراسم التتويج الفخمة التي جرت في كاتدرائية نوتردام بباريس في 2 ديسمبر 1804. تتّسم تركيبة اللوحة بدقّة هندسية، حيث تقود الخطوط الرأسية والقطرية عين المشاهد نحو نابليون، الواقف في مركز المشهد مرتديًا رداءً إمبراطوريًا مستوحى من روما القديمة.
لكنّ دافيد لم يُظهر كيف تَوّجَ نابليون نفسه، بل اختار لحظة تتويج نابليون لزوجته جوزفين، بينما يحمل التاج الإمبراطوري بيده—في مشهدٍ جريء يعكس طموح نابليون وصورته الذاتية. في قلب اللوحة، نرى رجلًا واقفاً بشموخ، جاذباً لأنظار الحضور، رافضاً أن يكون متلقيًا للسلطة، بل صانعًا لها.
بدعوته للبابا بيوس السابع لترؤّس المراسم، سعى نابليون لاكتساب الشرعية الدينية التي طالما رافقت الملوك. لكنّه، في لحظة فارقة، انتزع التاج من يد البابا ووضعه على رأسه بنفسه—في إعلان واضح بأن سلطته لا تأتي من رجال الدين، بل من ذاته وإنجازاته ومن الشعب.
هذا المشهد يلخّص العلاقة المتوترة والبراغماتية بين نابليون والكنيسة. فعلى الرغم من توقيعه إتفاقيّة الكونكوردات عام 1801 لإعادة الكاثوليكية إلى فرنسا، إلا أنه أبقى الكنيسة تحت سيطرة الدولة، محدّدًا دورها في الحياة العامة.
لوحة دافيد تعكس هذا التوازن بدقّة: البابا حاضر لكنه مهمّش، جالس بلا تأثير، بينما نابليون يهيمن على المشهد، مجسّدًا السيادة العلمانية في ثوب إمبراطوري.