أدب الدكتور داهش

صفحة مجهولة من غرام الامبراطور نابليون

 

 

 

عاد نابليون ظافراً مكللاً بالغار، و ذلك بعد فراره من جزيرة ألبا، إذ إن الجيش الذاهب للقبض عليه ألقى سلاحه عند قدمي أمبراطوره، و حمله على الأكتاف.

فعاد إلى عاصمته بطلاً صنديداً لا يقف بوجهه مغامر.

و أقيمت حفلات التكريم له، و أولمت وليمة دعي إليها عظماء المملكة و كبار ضباط الجيش.

وممن حضروا الوليمة السيد هنري كوتيه وابنته اللعوب بوليت ذات التسعة عشر ربيعاً.

كانت بوليت رائعة الجمال، ريانة الصبا، ذات عينين دعجاوين ينبعث السحر منهما. و إذا ابتسمت قتلت لفتنتها العجيبة! و قد لفتت الأنظار بشعرها المتهدل الاخاذ المنسدل على كتفيها الرائعتين! و جلست مع الجالسين ينتظرون قدوم أمبراطورهم العظيم.

قدوم الأمبراطور

وعزفت موسيقى الترحيب بمقدم الأمبراطور تحف به حاشيته و قد ارتدوا أفخر ما لديهم من حلل مزركشة موشاة برتبهم العسكرية.

فنهض الجميع إجلالاً له. فحيَّاهم مُبتسماً برفع يده، ثم عاد فأدخلها تحت معطفه. وبعد تناول الطعام سمح الامبراطور بافتتاح حلبة الرقص.

و عزفت الموسيقى…وعلى أنغامها اهتزَّت الخصور، و عقدت الأصابع.

بوليت الفاتنة

وحانت التفاتة من الأمبراطور إلى حيث تجلس بوليت، فبهره جمالها الأخاذ و سأل من تكون هذه الصبية؟

-إنها بوليت، يا مولاي، وهي ابنة هنري كوتيه مدير بنك الاعتماد الاقتصادي، و هي وحيدته.

فهزّ الإمبراطور رأسه و غيّر مجرى الحديث.

وانتهت المأدبة، و توقف الرقص، وانصرف الجميع إلى منازلهم.

نابليون وحلمه العجيب

استغرق نابليون بونابرت بالتفكير العميق، فقد شغلت هذه الحسناء أفكاره، و لم يستطع النوم.

-يا الله! هي هي بنفسها! فهذه الحقيقة أغرب من الخيال!

لقد شاهدتها مراراً في أحلامي وكنت أظنّ انها أضغاث أحلام، فإذا بها حقيقة مجسَّدة! و ليل الأمس شاهدتها بأثناء نوم وهي تغالب الأمواج و برفقتها فتاة، و الأمواج تغالبهما، ثم انقلب الزورق بهما وابتلعهما اليمّ و هي تقبّل صورة بيدها لم أتبيّن معالمها. و العجب بالأمر أنني شاهدت نفسي طائراً فوق جثتيهما و الأمواج ترتفع كالجبال! ترى، ماذا يعني ما شاهدت في حلمي العجيب.

الإمبراطور يتنكَّر

لقد طار النوم من عيني الإمبراطور ولم يستطع إليه سبيلاً، فنهض وارتدى ثيابه و تنكر.

وعندما حاول الخروج تبعه حارسه الذي لا يفارق له ظلاًّ.

-مولاي أنا خادمك الأمين، مُرني فأطيع.

-رافقني من بعد، و إيَّاك أن تُعلم أي مخلوق عن زيارتي الليلية هذه طوال حياتك.

-أقسم لك بخالقي و بشرفي العسكري على أن هذا السر سيرافقني للقبر يا مولاي العظيم.

وسار الإمبراطور وهو يعتلي فرسه، و حارسه أتبع له من ظلّه.

مفاجأة مذهلة

وأخيراً وصلا إلى منزل متوسط الكبر تحيط به حديقة صغيرة، و قرع الأمبراطور الجرس، وانتظر ، فلم يفتح الباب. فأعاد قرعه ثانية و ثالثة و رابعة، إذ كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

و اخيراً فُتح الباب، و سمع صوت يقول:

-من هذا الطارق الثقيل في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

ولحسن الحظ كان من فتح الباب – السيد كوتيه-إذ إن الخادمة ذهبت إلى منزلها قبل ساعات لحادث طارئ في بيتها. و ما شاهد السيد كوتيه وجه زائره حتى فغر فاه من الدهشة، و ذهل من هذه المفاجأة الصاعقة غير المنتظرة و صاح:

-مولاي مولاي، أغفر لي زلّتي، أغفر كلمتي- الثقيلة- فأنا يا مولاي لو زارني الملاك جبرائيل لما فوجئت بزيارته كمفاجأتي بزيارتك لمنزلي المتواضع. فهذا شرف عظيم لا تأتي الأيام بمثله.

وتنحّى مُفسحاً له الطريق. فدخل الامبراطور المنزل يرافقه حارسه، و قد اشأبّ شارباه كعلامة لرجولته. و قال الإمبراطور لحارسه:

-انتظرني في هذه الغرفة.

و أكمل سيره مع السيد كوتيه إلى الصالون الانيق.

بوليت الجميلة تذهل

وما كاد يجلس حتى دخلت بوليت الجميلة و هي تعرك عينيها أيقظتها الأصوات المتصاعدة. و ما شاهدت الأمبراطور حتى جحظت عيناها، و بدت الدهشة العظمى على وجهها فغيَّرت ملامحها.

-مولاي نحن لا نستحق زيارتك لمنزلنا. فأنت أعظم عظيم في كل أوروبا، ونحن عاديون. إن شرف عظيم لنا ستخلّده الأيَّام.

والد يتجلبب بالشرف الأثيل

وانسحب والدها إذ عرف بالبديهة سبب زيارة الأمبراطور لمنزله، و أن ابنته ستلعب دوراً بارزاً في حياة الأمبراطور معبود فرنسا.

دهشة بوليت العظمى

-بوليت إن عظماء أوروبا بأسرها يزحفون وهم يسعون لمقابلتي. و أنا أتيت لمنزلك لأجل الاجتماع بك. أو تدرين، يا بوليت، أنك استوليت على تفكيري مُذ شاهدتك في المأدبة الامراطورية ؟ و هل تعلمين أنني ما استطعت النوم إطلاقاً و انا أفكر بك! و ستدهشين إذا أكدت لك أنني شاهدتك مراراً و تكراراً في منامي. و الآن أصبحت الاحلام حقيقة واقعة بعدما شاهدتك بالمأدبة فذهلت!

-مولاي ماذا أسمع؟ مولاي، هل أنا في حالة يقظة واقعية أم تراني أشاهد حلماً سيزول ويتبدَّد في حال يقظتي!… أكاد أجن، أكاد أفقد عقلي…ساعدني، يا إلهي، فقد اختلط عليّ الأمر!

وكان ما كان مما لست أذكره

و جثت امام نابليون، فأنهضها و قبّل يدها بشغف ووله عظيمين. ثم أمسك كلتا يديها، و نظر إلى عينيها طويلاً وهو يتملاَّهما بلذَّة ووجد فائقين. و كانت بوليت ترتجف من الفرح، ومن الدهشة المثيرة، وما عتمت أن قالت له بصوت خافت:

-إنني احبك بكلّ ما تعنيه كلمة الحب، و أشعر بأنني لن أستطيع الحياة بدونك، بعد اليوم فكلمة منك تحييني، و كلمة أخرى تميتني.

-وأنت يا بوليت، لن أشعر بالسعادة بدونك. فمنذ هذه الدقيقة أصبحت مُديناً لك بسعادتي.

والتقت الشفاه…وكانت قبلة ثائرة…قبلة مجنونة…قبلة مذهلة لا يمكن لقلم أن يصف مقدار لذَّتها العظمى…واستسلمت بولت للأمبراطور بكلّ ما لديها من أنوثة مغرية.

بوليت تقسم أنها ستكتم

غادر الأمبراطور منزل معبودته ومالكة لبّه في الساعة الخامسة فجراً يتبعه فارسه الأمين. و عاد إلى قصره وهو سعيد بما حقَّقه في ليلته هذه.

وقبل مغادرته لمنزل السيد كوتيه جعل حبيبته تقسم له بربِّ السماء على أن تكتم علاقته بها كتماناً تامَّاً لأسباب ذكرها لها، مؤكداً لبوليت أن هذه الأسباب تراءت له بالحلم. فقد قال له الصوت بأثناء نومه:

-إذا لم تتقيد بما فهمتك عنه، إذ ذاك تفقد عرشك وينتهي أمرك. فوعدته بولت بكتمان الأمر طوال حياتها.

واترلو أزالت مجد نابليون

وتكررت انتصارات نابليون، فخضع ممالك، و أزال عروشاً و أذلّ شعوباً، و أباد جيوشاً، و رفع أقواماً، و خفض آخرين.

و أخيراً كانت معركة واترلو هذه المعركة التاريخية المشؤومة عليه، و التي ذهب ضحيتها خمسون ألف قتيل من الطرفين. كما كانت السبب في فقده لعرشه واضمحلال ملكه، ثم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة.

وهناك ذاق الأمبراطور الامرّين من حاكم الجزيرة النائية هدصن لو، و هذا الحاكم الإنجليزي الجلف الذي جافى الأمبراطور العظيم الذي قلب له القدر ظهر المجنّ بعد ذلك المجد الباذخ.

أما بولت فكادت تجنّ و تفقد عقلها لهول المصاب الفادح الذي أصاب منها مقتلاً.

ففي إحدى الليالي استقلَّت زورقاً استأجرته، واصطحبت ابنتها من نابليون، وانطلقت فيه بعرض البحر تريد أن تذهب إلى جزيرة سانت هيلانة حيث أسد فرنسا سجين الإنكليز.

لكن القدر القاسي كان لها بالمرصاد، إذ اهتاجت الأمواج و أرغت و أزبدت لهبوب عاصفة عنيفة. و بلحظة انكفأ القارب بطناً لظهر، و ابتلع البحر في أعماقه بولت الفاتنة وابنتها هنريت.

ومن أغرب الغرائب و أعجب العجائب أن موت بولت وابنتها وقع في اللحظة نفسها التي انطلقت فيها روح الأمبراطور العظيم!

فيا لسخرية الأقدار!

 

الدكتور داهش
من كتاب “قصص غريبة وأساطير عجيبة، الجزء الأول”
واشنطن الساعة الثامنة من صباح 4/3/1976

 

error: Content is protected !!