أدب الدكتور داهش

صـــلاة الفجـــر

 

إتبعينــي, يـا بنيّتـــي,

لنذهــب إلـى ( بيت اللّه )

نرفــع لـه الصلوات الصــادرة مـن قلوب أفعمتها الأحزان,

وتآمــرت عليها حوادث الزمان .

هيّا أسرعي, يـا بنيّة,

قبـل أن ينبلج الفجر,

وترسـل عذارى النور خيوطهنّ المتألّقة,

فتبدّد هذه الظلمات المتكاثفة .

هيا يا بنيّة,

أنصتي جيّداً …

ألا تسمعين خطوات النّسوة,

وهـنّ يسرن بسكون فـي الطريق,

ذاهبات حيث ( بيـت اللّه ),

ليقدّمـن لـه طلباتهنّ,

ويستغفرن عمّا آتينه من ذنوب وأسرار خفيّة

يكتمنها حتى عن أنفسهنّ ؟

أسرعي أسرعي,

فإنّ الدقائق تمرّ متتابعة , وتلحق بها الساعات متسابقة .

هيّا قبل أن يولّي الوقت, ويأتي الفوات .

هلمّي لنضرع إلى العليّ ليباركنا.

أسرعــي, أسرعــي . مـا بالك  تتوانين ؟

أولا تعلمين أنّه لم يبق مـن الوقت

سـوى مـدّة قصيرة لا تفي بما ينبغي ؟

***

دعينا نجثو فـي المعبد بإحترام,

ونقدّم إلـى الخالق عزّ وجلّ كلّ ما تجيش بـه دخائلنا

من ميول ورغائب مكنونة مستورة .

فـي الصلاة عزاء, يا بنيـّة .

إنّها فرصة لا تتاح كلّ حين,

فأسرعي معي , هيـّا , هيـّا .

لنترك شرور هذا العالــم وما فيه,

عند تطلّع قلوبنا إلـى السماوات .

لنتناسَ الهموم والأتراح والمنغِّصات,

وكلّ ما فـي هذه الحياة .

لننسَ ويلاتها وشرورها .

لننسَ آثامها وغرورها .

لنتناسَ كلّ شـيء , يا بنيّتــي, ونتّجه نحو القدير,

فنشعــر بالسلامة والسكينة تخيّمان فوق رؤوسنا,

ونستشفّ العذوبة الروحيّة,

وتستكين قلوبنا المتألّمة من هـذه الحياة, فنسعد,

وإن كنّا ما نزال, بعد, في الحياة!

أنصتي جيّداً, إنّها أناشيد سماويّة!

إنّهـم يرفعــون كلماتهـم المصوغة في قالب شعـريّ

يسبّحون بها خالق السماوات وباسط الأرض

كي يغفـر لهم مـا أتوه مـن أعمال

يستحقّون عليها الحساب .

أنظري إلى عيونهم كيف أقفلت,

وتمعّني فـي ملامح وجوههم , وفي أسارير جباههم.

إنّها تدلّ على خشوعٍ كلّي أمام الخالق العظيم !

فلنخشع , يا بنيّتي,

ولنضرع إلـى اللّه

كـي يُزيــل عنّا هذه الأوزار المثقّلة بهـا ذواتنا,

مـن ساعــة ولادتنا إلى ساعتنا الحاليّة,

وحتـى يأتينا داعي الموت فنذهب إلى حيث ينتظرنا العقاب.

أسجـدي, أسجدي, أيَّتها الطاهرة,

لأنّك مـا تزالين صغيرة السـنّ, يـا طفلتي العزيزة !

ليتني مثلك, يـا فتيّة .

إنّـك مـا تزالين نقيّة.

فاحرصي على طهارتك كي تبقي كالحمامة الوديعــة.

لا تدعي الشرّ يتغلّب عليك, يـا بنيّة .

لا لا , وأبعـدي الأفكار الرديئة إذا مـا ساورتك .

***

هـا هـي خيــوط الفجر قـد إبتـدأت ترسـل أشعّتها النورانيّة,

فتبدّد الظلمات المكتنفة الهيكل.

أكملـي صلاتك, يا بنيّتــي,

قبل أن يعـمَّ النور أرجـاء هـذا المكـان المقدّس .

أنظريهم يغادرون أماكنهم مسرعيــن,

بعـد أن أنهوا فروضهم الدينيّة .

هـا قـد إحتلّ النور أرجـاء المعمور.

ها قد لبـس المعبد حلّة بهـاء وسطوع وصفاء ,

فهيّا بنا, يا بنيّة, نرجع إلـى منازلنا .

ويـا لحياة الإنســان !

إنّها أحلام تمرّ بنا ونحن لا ندري!

أنظـري,

ألم نكن قبـل أن نجـيء إلـى هذا المكان

نرى الظـلام يعمُّ الأرجـاء ؟

ولكن , أنظريه أين هو الآن ؟

ها قد تبدّد وكأنّـه مـا كان.

وهكذا سيحـلّ فـي المسـاء, كما اعتاد,

وسيولّـي هذا النهار .

وهكذا حياتنا تنقضي .

فمـا أشبهها بتوالي الأيّام, وكرور الأعـــــوام ! ..

القدس, 27 كانون الثاني 1934

الدكتور داهش

error: Content is protected !!