التقمّص والتناسخ أو عظم ذنْبه فقُطع ذَنبَهُ
كانا أخوين توأمين أشقرين حبَتْهما أمّهما حبّها العارم ، واعتنت بتربيتهما اعتناءً تاماً ، وقد بذلت النّفس والنفيس في سبيلهما.
فكم من الليالي طوتْها ساهرةً قَلِقَة عندما كان يمرض أحدهما ، فتروح واصلةً ليلها بنهارها ، منصبّة على الاعتناء به وتطبيبه حتى يتمّ له الشفاء .
وشبّا عن الطوق ، وكانا لا يفترقان إطلاقاً، فهما جسدان بروحٍ واحدة .
وقد نالا من العلم ما فيه الكفاية ، وطالما رنّما أشعار لامرتين الرائعة . وقد حفظ شبل قصيدتي «البحيرة » و «الوحدة » ، فكان يُردّدُهما لوالدته ولأصدقائه ، فيطربون لما يسمعون من الشعر الرفيع الذُرى .
وسأل أحد أصدقاء الأخوين والدتهما شالميت :
– لماذا اطلقت اسم شبل على نجلك ؟
فأجابت :
لأن ملامحه منذ ولادته تشابه الأسد. والشبل هو ابن الأسد أما شقيقه فاسمه غضوب .
ومضت الأيام يُسابق بعضها بعضاً ، وتوارت الشهور، ثم أُبيدت الأعوام، وإذا بالمراهقين أصبحا شابين مكتملي الرجولة .
لقد أصبح عمرهما عشرين عاماً، وبهذا العمر يرتكب الشاب هفوات يمليها عليه طيش الشباب .
فكم من الحوادث والأحداث ارتكباها ، وسبّبا لوالدتهما قلقاً وهمّاً كبيرين .
وعشقا داجية وتَدَلَّها بغرامها
وفي أحد الأيّام جاورتهما أرملةٌ وابنتها الخلاسية – داجية – وكانت مراهقة لا تتجاوز عامها السابع عشر. وكم سحرت
فتنتها الأخوين الشابّين، وكم أَسْهَدَتهما ! فقوامها أملود ، وجيدُها أسيل ، وشعرها حالك السواد مسدول على كتفيها ، وفمها أحوى ، وزندها لجينيّ ، وعيناها كوكبان متألّقان ، وصدرها يُحيي ويميت ، وبسمتها تُذهل ، وغضبتها تصعق وتدمّر فهي كاعبٌ مغناج تسحر كلّ من يراها . واستمات الأخوان بغرامها وتدلّها حبّاً بها ، وصبابةً بصباها الريان وجمالها الفتّان.
وتجاوبت داجية مع غضوب ، فبادلته حباً بحب ، وكانت لا تطيق عنه بعداً. وتفانى غضوب في حبّها الذي ملأ عليه حياته ، فهي بخاطره في يقظته ، ويراها في أحلامه . لقد أصبح أسير هواها ، وامتلأ بحبّها فؤاده .
وفي إحدى الليالي تسلّق نافذة غرفتها مثلما سبق لروميو عندما تسلّق نافذة حبيبته جولييت وبثّها ما يكنّه لها من الهوى والغرام ، وما يستعر في فؤاده من الضرام ، فهو بها مستهام .
– وأنا بي ما بكَ يا مَنْ لا أحيا إلاّ لأجلك ، فروحي هي ملك يمينك .
– داجية ، أيتها النجمة التي أنارت طريق حياتي ، إن حياتي
لا معنى لها إذا لم أحظَ بكِ. فأنت التي اشعرتني بالنعيم في دنيا ما هي إلا الجحيم. وقدّم لها ورقة مطويّة فتحتها وقرأت فيها ما يأتي :
نشيد عاشق
داجية، عندما أنظر إلى لازَورْد عينيك الفاتنتين ،
أخال نفسي في فردوس النعيم أجوب ربوعه ،
وأتمتّع بروائع أزهاره ، وأُسحر من تغريد أطياره .
فما أنت إلا كوكبٌ نيّر يضفي أنواره الشعريّة على الكائنات،
فاذاها تتهلل فرحاً ، وتطرب مرحاً لمرآك .
إنّ صباك ، يا داجية ، ألهب شعوري ،
وهيمن على كياني ، فإذا بي عابدٌ لك ، متيّم بك
متبتّل ، ضارع أن تقبليني حبيباً متفانياً بحبك .
إن الورود تتمنى أن تتهالك على قدميك الفاتنتين ،
والفلّ والبيلسان يزداد ضوعهما عندما تتنسّمين شذاهما ،
وجمال الزنابق يُزرى به إذا قورن بروعة جمالك الإلهي الفائق !
فيا داجية ، أيتها الهابطة من جنّة جنّات عدن العلويّة ! إنني عابدٌ لك ، متيّم بحسنك الفردوسي ،
هائم بمفاتنك ، مذهول برقّتك !
فمتى ، متى تكونين لي وأكون لك ؟
أمّليني ، يا داجية ، فتتبدّد الدجنّة التي تكتنفني
وأتذوق لذة قربك ، وأنعم بروعة حبك .
كلمةٌ منك تُحييني وأخرى تميتني ، فأمّليني .
وإذا بداجية تقول له :
– إني لك بكلّيتي ، يا حبيبي الجميل ، فاحتوني بذراعيك القويّتين وقبّلني ، إذ سحرتني قصيدتك ، وتأكد لي عظيم هواك لي ، وأنا أحمل لك حبّاً يتفوّق على حبّك المتأجج .
سعادة وهمية
وضمّها إلى صدره بشوقي عارم هم ألصق شفتيه بشفتيها ، وإذا هما يجوسان جنّة النعيم المقيم، ويهيمان في حدائقها الغنّاء ، تصدح لهما أنغامٌ سماوية ، فانتشت
روحاهما وهامتا في فراديس اللذائذ والمتع الأزليّة .
كم مضى عليهما من الزمن ؟ هذا مجهول لديهما ، ولم يُعدْهما إلى عالم الأرض سوى طرقات على باب غرفة داجية، وكانت الشمس تملأ الغرفة بنورها الساطع .
شكوك والدة
كانت والدة داجية تقرع الباب وهي مدهوشة لعدم خروج ابنتها كعادتها اليومية ، مع أنّ الساعة قد بلغت التاسعة .
– أمّاه!..
واختبأ غضوب بخزانة الثياب ، وفتحت داجية الباب لوالدتها وهي تقول لها :
– أمّاه ، لقد تأخّرت ليل الأمس بمطالعة كتاب أدبي ، لهذا لم أستيقظ باكراً كالعادة .
– ولكن ، لماذا أقفلت الباب من الداخل ؟ فللمرّة الأولى أراكِ تقفلينه ؟
لقد نسيتُ ذلك بسبب استغراقي في مطالعة الكتاب ، ثم أدركني النوم عند الفجر.
– إذاً ، هيّا لتناول الطعام فقد أحضرته لكِ .
– شكراً ، يا والدتي الحبيبة ، على اهتمامك المتواصل بي.
حبٌّ عاقبتُه وخيمة
واغتنمت داجية فرصة ذهاب والدتها إلى الدكّان المجاور ، فأخرجت حبيبها غضوباً. فانطلق عائداً إلى منزله والأرض على رحبها لا تسعه لشدّة فرحه . كان سعيداً كلّ السعادة إذ اتفق مع معبودته أن يقترن بها في الأسبوع القادم.
وما كاد يدخل المنزل حتى بادره شقيقه السؤال :
– أين أمضيت ليلتك ، يا غضوب ، وما اعتدتَ أن تهجر منزلك ، وتنسى والدتك ، ولا تأبه بشقيقك . أتظنّني أجهل المكان الذي قضيت ليلك فيه ؟ إذا ظننتَ ذلك فما أنت إلاّ واهم .
وتأكد لغضوب أن شقيقه كان له بالمرصاد ، فاعترف بالأمر الواقع ، وأعلم شقيقه شبلاً بحبه العنيف لداجية، وأنه سيقترن بها في الأسبوع القادم .
وهبّت العاصفة
وانتصبت والدتُه شالميت معنّفة إيّاه وقائلة :
– غضوب ، هل فقدت عقلك ، يا بنيّ ، كي تقترن بفتاة هي ثمرة الزنى . فوالدها الزنجي لم يقترن بأمّها ، بل كانت نتيجة اتّصال محرّم ؛ وهذا الأمر يعرفه الجميع . وتأكّد بأنها ستقترن بك طمعاً بثروتك الكبيرة التي تركها والدك لك ولشقيقك ، وطمعاً بالأراضي التي نملكها والمنازل الفخمة التي تتوق ووالدتها للاستحواذ عليها . فكيف أقبل أن يقترن ابني بابنة سفاح مدنّسة الوالدة المتهتكة، تلك الوالدة المعوجّة السلوك، الشائنة السيرة ، المهتوكة العفاف .
وانقضّت الصاعقة المبيدة
واتّقدت نيرانُ الغضب والغيظ العظيم في صدر غضوب ، فصاح بوالدته :
– إيّاك وإهانة من أفتديها بروحي . فما ذنبها إذا ارتكبت والدتها هفوة في ساعة ضعف؟
– غضوب ، هل نسيت المثل القائل : “طبّ الجرّة على تمّا بتطلع البنت لإما” . أو هل نسيت المثل القائل :
“الابن ينشا على ما كان والده
إن العروق عليها ينبتُ الشجر”
فهل أظلمَتْ بصيرتُك حتى أصبحتَ تخالف وراثتك لوالدك فتقترن بابنة الفاسقة ؟ ! وإني متأكدة بأنها ستسير على خطى والدتها ، فإيّاك ثم إيّاك . وما داجية إلا قطة شرسة فحذار يا غضوب ثم حذار .
وإذا بغضوب يُجيبها قائلاً :
– لو قدّر لداجية أن تتقمّص قطّةً لتمنّيت أن أقرن مصيري بمصيرها .
– يا لك من ابنٍ عاقّ ، فملعونٌ هو الحليب الذي رضعتَه .
وأعمى الغضب المتّقد غضوباً ، فدفع بيده والدته بعنف ، وأذا بها تسقط أرضاً ويصطدم رأسها بحافّة العتبة فتجود
بروحها .
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حدّه الحد بين الجدّ واللعب
وهال المشهد شبلاً ، فانتضى سيفاً معلّقاً على الحائط للزينة، وانقضّ به على مؤخّرة شقيقه الذي فرّ مذعوراً عندما شاهد موت والدته . وهوى به للمرّة الثانية فبتر ساق غضوب الذي جاد بروحه أيضاً .
وتسارعت الجماهير لسماعها ضوضاء وصخباً شديدين . وإذا بهم يُشاهدون شاباً ينتضي السيف، وهو يرقص ويغنّي، ملوّحاً بسيفه في الهواء ، ثم يقهقه يجنون. وأسرع رجال الشرطة ، وحاولوا إمساك الشابّ ، فقتل منهم شرطيين ، ثم غرس السيف بأحشائه ، وهكذا كانت النهاية المأساوية .
هادية تهدى قطّة
نحن في العام ١٩٧٦ في إحدى المدن الأميركية ولدى أسرة تقيم في صرحٍ فخم . وقد زارت صديقةٌ لهذه العائلة هادية، وهي تحمل لها هدي؟ة قطّة مرقطة . وسُرّت هادية بالقطة ،
وقدّمت لها الطعام فتناولته وكأنها تعرف المنزل منذ مدّة طويلة ، وقد أطلقت عليها اسم شارلوت .
ومضت الأيام والقطّة شارلوت تنعم في هذا المنزل الكبير وفي حديقته الغنّاء المتّسعة الأرجاء .
وكانت هادية تقيم بهذا المنزل منذ عامٍ واحد برفقة والدتها وشقيقها . وبعد بضعة أشهر ولدت شارلوت ثلاثة قطط ذكرين وأنثى . فالذّكران أشقران ، والأنثى حالكة السواد (وقد ولدتهم بالبدرون ) (1) . وقد سُمّي أحد القطّين باسم شبّول. ومضت شهور على ولادتهم ، وإذا بهم يغادرون البدرون، ويخرجون إلى حديقة المنزل ، ولا يعودون إليه إلاّ عندما يقرص الجوع أمعاءهم .
وفي أوائل شهر نيسان ۱۹۷۸ صدمت سيارة شبّول فحطّمت ذنبه ، وكسرت رجله ، وإذا به حطام ملقى على الأرض ، وحالته تعيسة للغاية. وحملت شقيقة هادية القطّ إلى الطبيب بمستشفى الحيوانات ، فأعلمها بأنه إذا لم تجر عملية جراحية يزال فيها ذنب القطّ فإنه يموت . وأبقت القطّ في المستشفى. وبتاريخ ١٩٧٨/٤/٨ اتصل الطبيب تلفونياً ، وأعلمها بأنها تستطيع المجيء إلى المستشفى لتسلّم القط بعد ما أجرى له جراحة قطع بها ذنبه المحطّم .
ومكث القط يومين في المستشفى .
تقارير القطّ شبّول
وذهبت هادية إلى المستشفى بعد المخابرة التلفونية ، وتسلّمت القط مقطوع الذنب . وتقاضى الطبيب مبلغ ۸۱ دولاراً ونصف الدولار لأجل العملية والبنج وإقامة شبّول يومين بمستشفى الحيوانات .
ولا شكّ أن القارئ عرف أنّ القط شبول هو نفسه الشاب شبل الذي استلّ السيف المعلّق على جدار الغرفة في منزله، وطعن به مؤخّرة شقيقه غضوب الهارب بعد مقتل والدته عندما دفعها بعنفٍ بيده. وقد تقمّص بدوره هذا القط ، وجوزي إذ صدمته سيّارة ، فحطّمت ذنبه ، وكسرت رجله فأدخل إلى مستشفى الحيوانات ، وأجريت له عمليّة قُطع بها ذنبه ، وذلك بعد أن كان قد تسبّب ببتر رجل شقيقه غضوب ، فضلاً عن طعنه بمؤخّرته .
فالجزاء الروحي هو من نفس العمل. فما تزرعه إيّاه تحصد هذه هي العدالة الروحية ، إذ لا شيء يتلاشى ، وكلُّ يُحاسب بمثل أعماله ، فإن كانت شراً فيصاب بالشرّ نفسه ، وإن كانت خيراً فسيكافأ بالنسبة للعمل الحسن الذي أجراه.
ووالدة غضوب وشبل شالميت هي نفسها القطّة شارلوت ، وداجية الخلاسية التي عشقها غضوب ولدت قطّة سوداء من قمة رأسها حتى أخمص قدميها ، وقد ولدت بهذا التقمّص كشقيقة لغضوب وشبل .
لقد اجتمع شملهم في هذا التقمّص ، وما يدرينا ماذا سيكون تقمّصهم القادم.
إنّ كلاًّ منا سيتقمّص مراراً حسبما يستحقّ سواء أتقمّصَ إنساناً سويّاً أم حيواناً أليفاً أم بريّاً. وعقيدة التقمص يعتنقها الملايين من البشر بوذيين ويوغيين وبرهميين وجينيّين.
كما توجد كتب كثيرة تبحث في هذا الأمر بدقة وعناية وهي بأقلام كبار الفلاسفة والمفكرين . فسبحان مكوّن الأرض ومبدع السماوات، ومن بيده الموت والحياة .
الولايات المتحدة الأمريكية، الساعة الثامنة من ليل ١٩٧٨/٤/٨
إيضاحات وشروح
شالميت – والدة غضوب وشبل جوزيت فتقمّصت قطة ، وذلك لكراهيتها لداجية ولتحاملها على والدة داجية بقسوة وعنفٍ بالغين ، إذ قالت لابنها غضوب : “و ما داجية إلا قطة شرسة “. فأجابها غضوب : «لو قدّر لداجية أن تتقمّص قطة لتمنيت أن أكون قطاً لأقرن مصيري بمصيرها”.
وشبل ما انتضى مهنّده ونكّل به بشقيقه إلاّ غيرةً وحسداً من تفضيل داجية لشقيقه غضوب عليه ، فجوزي إذ عاد إلى الأرض ثانية متقمّصاً كقط ، واجتاحته سيّارة ممّا سبّب له قطع ذنبه وكسر رجله، فالعدالة الروحية تقتضي أن يُصاب بما أصاب به شقيقه. فبالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم ويزاد . وهكذا عادوا جميعهم إلى عالم الأرض ، ثانية ، متقمّصين كقطط ، واجتمعوا معاً لتتكرّر تجربتهم . فإذا استطاع غضوب أن يمتنع عن داجية التي أصبحت الآن شقيقته ، فإذ ذاك يُرقّي درجته الروحية . وكذلك شبل ،
عليه أن يكون عفيفاً مع داجية التي أحبّها في تقمّصه السابق من صميم قلبه ، وأصبحت الآن شقيقته . وما اجتمعت ، ثانيةً ، واندمجتْ بهم إلاّ لتكون كالشّرك المتين ليقتنصهما . فإذا تغلّبا على رغبتهما بالامتناع عنها ، رقّيا
سيّالاتهما ، وإلا فسيتكرّر تقمّصهما ، وبتكراره تتجدّد آلامهما بما سيعترضهما من عقباتٍ كأداء في عالم الأرض الملأى بالشرور والنكبات الجسام .
ونظرية التقمّص تؤكّد أن المرء عندما يتقمّص كحيوان أو طير أو سواه يعطى سيّال معرفة الماضي ، فيعرف أنه كان بتقمصه السابق رجلاً أو امرأة ، ولماذا تقمّص الآن بالصورة الحيوانية .
وما ذلك إلاّ بالنسبة لما ارتكبه من آثام وشرور سيدفع ثمنها حتى يرقّي درجته الروحية ، وإذ ذاك ينال مكافأته بانتقاله إلى عالمٍ بهيّ ، سعادته أبديّة وأفراحه سرمديّة .
(۱) استخدام ضمير العاقل في الكلام على القطط مقصود.
الدكتور داهش
من كتاب” قصص غريبة وأساطير عجيبة”