هداة وحكماء

لقاء كونفوشيوس ولاوتسي

تروي لنا المأثورات من عهد “الربيع والخريف” في الصين (771-476 ق.م)، حين أزهرت الأفكار الفلسفية في أرجاء تلك الأرض العتيقة، أن عملاقين من حكماء الصين قد تقاطعت دروبهما. فتروي أن كونفوشيوس (551-479 ق.م)، صاحب الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية التي ألهمت حضارة شرق آسيا لآلاف السنين، إلتقى بالشخصية الغامضة لاوتسي (600-530 ق.م)، المنسوب إليه تأليف كتاب “داو دي جينغ” وتأسيس الفلسفة الطاوية.

هذا اللقاء، سواء حصل فعلاً أم لم يحصل، يجسّد لحظةً رمزيةً فارقة في تاريخ الفكر الصيني – حيث تلاقت رؤيتان مختلفتان لفلسفة الحياة، قبل أن تستأنفا مسيرتهما المنفصلتين شكلاً ولكن المتكاملتين جوهراً. 

ينقل لنا سيما تشيان في كتابه “سجلات المؤرخ العظيم” (أنجز حوالي 94 ق.م)، أنّ كونفوشيوس رحل إلى لويانغ، عاصمة أسرة تشو، ليستشير لاوتسي في أمور الطقوس والسلوك القويم. ويُرجّح أن هذا اللقاء جرى حوالي عام 518 ق.م، حين كان كونفوشيوس وقتها عالمًا واعدًا في الثلاثينيات من عمره، ويسعى لاستقاء المعرفة من الحكيم الأكبر سنّاً، والذي كان يتولّى مهمّة الإعتناء بالمحفوظات الملكيّة. وقد أصبحت محادثتهما منذ ذلك الحين أسطورةً متداولة. 

 

 

يحُكى أن لاوتسي حذّر المفكّر الشاب وقتها من الطقوس الصارمة ومن التراتبية الاجتماعية، والتي أصبحت لاحقًا من سمات التعاليم الكونفوشيوسية. قال له: “إن عظام الذين تُعْجَب بهم قد استحالت منذ زمنٍ بعيدٍ إلى تراب، ولم يبقَ منهم سوى أقوالهم.” ثم قدّم نصيحته الشهيرة: “الحكيم يقيم في الثمرة لا في الزهرة؛ يتجاوز المظهر ليتمسّك بالجوهر.” كان في هذا العتاب اللطيف إشارة إلى أن اهتمام كونفوشيوس بالمظاهر والآداب يفُوّت عليه جوهر الحياة العميق. 

ومن الحوارات اللافتة التي تناقلتها المرويّات قول لاوتسي لكونفوشيوس: “تخلّص من كبريائك وطموحك، من أنانيّتك وخططك المفرطة، فكل هذه لا تنفع ذاتك الحقيقية.” وهذا يلّخص جوهر النقد الطاوي للكونفوشيوسية – بأن السعي لإصلاح المجتمع عبر الأعمال الممنهجة قد يدمّر البساطة الطبيعية التي هي أساس الحكمة الحقيقية. 

غادر كونفوشيوس اللقاء مندهشًا، وشبّه لاوتسي بتنّين يركب الرياح والغمام – غامض، قوي، فوق الفهم العادي. قال: “أعرف كيف تطير الطيور، وكيف تسبح الأسماك، وكيف تجري الحيوانات. لكن ما يجري يمكن أن يصُاد، وما يسبح يمكن أن يعْلَق، وما يطير يمكن أن تصيبه السهام. أما التنين، فلا أدري كيف يعتلي الريح عبر السحاب ويرتقي إلى السماء. اليوم رأيت لاوتسي، ولا أستطيع إلا تشبيهه بالتنين”. 

لا يزال الباحثون يتساءلون عمّا إذا كان هذا اللقاء قد حدث فعلاً. يرى كثيرون أنه إختُلِق لاحقًا لربط مدارس الفكر المتنافسة. فأقدم توثيق له ظهر بعد قرون من وقت حصوله المفترض. كما تشير الدراسات الحديثة إلى أن لاوتسي ربّما عاش في فترة متأخرة عمّا كان يعُتقد، مما يجعل حدوث لقاء حقيقي أقل احتمالًا. بل يرى بعض الخبراء أن “لاوتسي” قد يكون تجسيدًاً لعدة مفكّرين دمجت أفكارهم في ما صار يعُرف بالفلسفة الطاوية. 

غير أنّ الأهميّة الرمزية تتجاوز الحقائق التاريخية. فاللقاء يجسّد حوارًا بين نهجين فلسفيين صاغا الحضارة الصينية: 
الكونفوشيوسية بتأكيدها على النظام الاجتماعي والطقوس المناسبة والتهذيب الأخلاقي، والطاوية بتركيزها على الطبيعية والعفوية والانسجام مع النظام الكوني. دعا كونفوشيوس إلى المشاركة الفاعلة في المجتمع. وركّزت تعاليمه على أهمّية تسمية الأشياء بمسمّياتها الصحيحة، وضبط العلاقات بين الناس؛ خاصّةً العلاقات الخمس: بين الحاكم والرعية، الأب والابن، الزوج والزوجة، الأكبر والأصغر سنّاً، والصديق وصديقه. كما دعا الى تنمية الفضيلة من خلال التعليم والطقوس. وقد عبّر عن اعتقاده بأن التعليم يستطيع تغيير أيّ إنسان عندما قال: 
“التعليم لا ينبغي أن يعرف تمييزًا طبقيًّا،” وسعى لترميم النظام الاجتماعي المتصدّع من خلال القدوة الأخلاقيّة والحكم الرشيد. 

أما لاوتسي، فنادى بمبدأ “وو-واي” (اللافعل)- ليس بمعنى عدم فعل شيء- بل بمعنى التصرّف بإنسجامٍ مع انسياب الطبيعة. كتب في “داو دي جينغ”: “يُحكم العالم عبر ترك الأشياء تأخذ مجراها، فلا يمكن حُكمه بالتدخّل.” وآمن بأنّ أفضل طريقةّ للحُكم هي التي تلمس الناس بلطفٍ شديد حتى لا يكادون يشعرون بها: “أحكم الأمّة العظيمة كما تطبخ سمكة صغيرة؛ لا تفرط في طهيها”. 

فبينما أعلى كونفوشيوس من شأن المشاركة الاجتماعية، وجد لاوتسي الحكمة في التحرّر من البنى المصطنعة للحضارة. 

يذكّرنا هذا اللقاء الأسطوري بأن التقاليد الفلسفية، ولو كانت متعارضة، يمكنها أن تكُنّ لبعضها البعض إحترامًا متبادلًا. يبيّن أنه ما من نهجٍ واحدٍ يستطيع احتواء الحقيقة كاملةً – وأن الحكمة تكمن أحيانًا في استيعاب أفكارٍ متناقضة في توتر خلاّق بدل محاولة التوفيق بينها قسرًا. كما كتب تشانغ زاي (1022-1077م), الفيلسوف النيوكونفوشيوسي: “حين يخلو العقل من الأحكام المسبقة، يصبح متقبّلاً للحقيقة من أي منبع كانت”. 

عبر التاريخ الصيني، تأثّرت الكونفوشيوسية والطاوية ببعضهما رغم تباينهما. فقد أدمجت المدارس اللاحقة مثل النيوكونفوشيوسية الميتافيزيقا الطاوية مع بقائها متجذّرة في الأخلاقيات الاجتماعية الكونفوشيوسية. كما مزج العالم تشو شي (1130-1200 م) من عصر أسرة سونغ عناصر من كِلا التراثين، وأشار إلى أنّ “طريق السماء والأرض يكمن في التوازن بين الحركة والسكون.” وهذا يوضّح كيف يمكن لوجهات النظر المتباينة ظاهريًا أن تثُري بعضها بدلًا من أن تضُعف بعضها البعض. 

سواء أكان حقيقيًا أم أسطوريًا، فإن لقاء هذين العملاقين الفلسفيين يبُرز قدرة الصين الإستثنائية على استيعاب تقاليد فكرية متعدّدة في حوارٍ مثمر. كما تأمّل الشاعر لي باي (701-762 م) من عصر أسرة تانغ: “تحدّث كونفوشيوس عن شؤون الإنسان ،وتحدّث لاوتسي عن شؤون السماء. أضاء كلّ منهما نصف العالم، ومعًا أناراه كاملاً “. 

Two sages met beneath the ancient sky
One sought rules by which men should live
The other smiled at clouds that floated by
And knew that nature has far more to give

Dragon and scholar, water meeting stone
The Way that can be spoken and the rites
Two paths that the East would forever own
Dawn and dusk, twin guardians of heights
Zein Zaarour~

error: Content is protected !!