“أنا والدكتور داهش فى شوارع القاهرة”
بقلم الروائي سامح الجباس
البداية كانت بالنسبة لي من شارع عماد الدين فى القاهرة حيث قررت أن أقتفي أثر زيارات الدكتور داهش الى مصر .
كان ذلك فى 2019 أثناء الفترة التى قضيتها فى البحث عن معلومات عن دكتور داهش لأبدأ فى كتابة روايتي.
وكان الخيط الأول هو إعلان قديم منشور عثرت عليه فى مجلة ( الصرخة ) المصرية التى كانت تصدر فى عام 1931. (بخصوص إستقبال الدكتور داهش لزائريه في فندق جلوريا في شارع عماد الدين).
وبالفعل ذهبت فى زيارات متعددة الى فندق جلوريا ولكني لم أجد أي معلومات سوى شعوري بأنني أقف فى نفس المكان الذى أقام به الدكتور داهش عام 1931.
بعد نشر روايتي استكملت صورة بعض ما جرى فى هذه الزيارة – وهو قليل جداً – حيث لم يدون الدكتور داهش أى تفاصيل عن تلك الزيارة , إلا تلك الخواطر التى كانت تفد على ذاكرته عندما زار مصر بعد مرور أربعين عاما على تلك الزيارة الأولى.
لنقرأ هذه المقتطفات من هذه اليوميات التي تعطينا بعض المعلومات عما جرى فى عام 1931 :
{ فى يوم 2 آذار 1971 :
واتصلت تليفونياً بالسيدة كيزيديا , قرينة المرحوم محمد فايز طبوزاده, فدهشتْ للغاية وقالت :
” مش معقول , مش معقول”
والسيدة كيزيديا أو ” سوسو” – اسم التحبب – تعود معرفتي بها لعام 1931 , وفى شهر آذار أيضاً , أي منذ 40 عاما مضت وعفت آثارها , اذ كنت يومذاك قد قدمت الى القاهرة للمرة الأولى , ونزلت بفندق جلوريا فى شارع عماد الدين , برفقة شقيقتى أنتوانيت.
فزارتنا يومذاك سوسو , وتوطدت علاقتنا , وكان قرينها يومذاك أحد أمناء الملك فؤاد , ثم أميناً للملك فاروق .
وقد سهرنا فى منزلها مراراً وتكراراً , وأمضينا أوقاتاً ما كان أجملها وما كان أروعها .
وكنّا نجتمع يومياً إمّا عندنا فى الفندق , وإمّا فى منزل سوسو. }
ولنقرأ أيضًا ما كتبه الدكتور داهش:
{ فى 7 آذار 1971
نهضت من نومي وارتديت ثيابي , وإذا بسوسو تصل وتقول:
” إن شقيق زوجها ينتظرنا بالسيارة أمام الفندق , كي نزور الأهرام , لتشاهدها وتتذكر ذهابي برفقتك اليها عام 1931
يا للذكريات الآفلة! }
ونقرأ أيضاً:
{ فى 9 آذار 1971
وذهبت الى فندق غلوريا , وهو فى شارع عماد الدين , وسبق لي أن نزلت فيه فى عام 1931 , وكان يومذاك من الفنادق الجيّدة , أمّا اليوم فهو من الدرجة الخامسة ..}
وهذه الفقرة أيضًا:
{ فى 10 آذار 1971
وذهبنا الى حديقة الحيوانات , وجلسنا فى جزيرة الشاي حيث تناولنا عصير البرتقال . وتذكّرت انه سبق لي أن جلست فى هذه الحديقة عام 1931
والآن أعود فأجلس فيها بعد 40 عامًا
فما أسرع مرور الزمن! إنه ومضةٌ خاطفة ! }
ومن هذه الفقرة نعرف معلومةً أخرى:
{ فى 16 آذار 1971
أثناء زيارته الى المتحف الزراعي بالدقى يقول الدكتور داهش:
… حتى وصلنا أخيراً الى نهاية الممر , فإذا بنا نشاهد رأساً ضخماً للحيوان النهري السيد قشطة
كان الرأس الضخم فاغراً فاه , فبدت أسنانه الرهيبة القاطعة ,
وللحال تذكّرت أنني شاهدت هذا الرأس المحنّط فى عام 1931 فى قصر الأمير يوسف كمال بالمطرية , عندما دعاني الأمير يومذاك ..}
عندما نقرأ هذه الفقرات نعرف بعض ما قام به الدكتور داهش من زيارات وجولات فى القاهرة في عام 1931 :
{ في 7 آذار 1971
مررت فى طريق عودتي لأشاهد فندق عمر الخيام , اذ سمعت من العديدين أن هذا الفندق كان قصرا يملكه أحد الأثرياء.
وما دخلته حتى عرفت للفور أنه قصر الأمير لطف الله . لقد سبق لي أن زرته أثناء وجودي بالقاهرة فى عام 1931 }
فى تلك الزيارة كتب دكتور داهش هذه الأبيات :
ومنذ أربعين سنة تماما كتبت عنك
يامصر , قطعة بدأتها قائلا:
أحبك يا مصر وأهواك, ونفسي ماتزال تتوق لرؤياك.
***
لكن بعد صدور روايتي فى 2021 والنجاح الذى حققته لم أكن أدري أنّ هناك ترتيبات قدريّة – لا أعرف حتى الآن سرّها – أو هل هي مجرّد مصادفات أم لا؟ حتى تلتقي خطاي بخطى الدكتور داهش دون أن أعرف أو أخطّط لذلك.
فبعد صدور الرواية حدثت عدّة أمور :
الأولى : إقامة الكثير من الندوات لمناقشة الرواية فى أماكن سأتحدث عنها بعد قليل.
الثانية : أنني استطعت أن أحصل على النص الكامل للرحلة الرابعة للدكتور داهش وفيها تفاصيل عن أماكن كثيرة زارها.
وسأبدأ الآن فى تفصيل كيف التقت خطاي بخطى الدكتور داهش ( بطريقة قدرية). ولنتتبّع بعض فقرات هذه اليوميات التي كتبها الدكتور داهش عن زيارته للقاهرة عام 1971 لمعرفة تفصيل هذه الأمور الغريبة عن طريق تعليقاتي عليها :
اليوميات :
{ فى 2 آذار 1971
توجّهت بالسيارة الى فندق سميراميس لأراه, لأن بعض الأصدقاء نصحوني به, فأحببت أن أشاهده مشاهدة العين , وإذا به بالقرب من فندق الهلتون…. وقد صعد معنا موظف , وشاهدنا غرفة نوم من غرفه, وهي جميلة ولا بأس بها. }
تعليقي:
بعد صدور روايتي زار مصر أحد الكتّاب الأصدقاء من دولة خليجية وطلب أن أقابله وأن أحضر معي روايتى لأنه كان مهتماً جداً بقراءتها.
واختار هو اللقاء فى فندق سميراميس!!
وكان ذلك فى عام 2022 ولم أكن أنا وقتها أعرف أن الدكتور داهش كان يقيم فيه من قبل.
اليوميات:
{ يوم 8 آذار 1971
نهضت من فراشي , وطلبت من الأخ نقولا أن نقوم بجولة , نشاهد فيها بعض فنادق القاهرة.
فاستقلينا تاكسياً , وذهبنا به الى فندق شهرزاد , وهو بمنطقة العجوزة , وتفقّدنا غرفة فيه لشخصين , وهو لا بأس به , ولكن ليس مثلما أحب. }
… في 14 آذار سيعود الدكتور داهش لينزل فى هذا الفندق, ويقيم فى الطابق التاسع غرفة رقم 905 , برفقة شقيقته أنتوانيت.
تعليقي:
فى عام 2021 وبعد صدور الرواية قابلت أحد النقّاد وقد حدّد هو مكان اللقاء فى كازينو يطل على النيل , وعندما جلسنا كان فى مواجهتي تماماً المبنى الضخم لفندق شهرزاد .
وظللت شارداً أثناء هذا اللقاء أتطلّع الى مبنى الفندق الضخم وأتساءل :
ترى أين كانت الحجرة التي أقام فيها الدكتور داهش؟
اليوميات:
{ فى 8 آذار 1971
ثم ذهبت الى فندق شيراتون , وهو بمنطقة الدقي , وهذا الفندق ضخم وأسرّته واسعة …}
تعليقي:
فى شهر سبتمبر 2021 استضافني صالون ( سحر الرواية) لمناقشة روايتي ” رابطة كارهي سليم العشي ” فى نادي التجديف . وهو المكان المواجه تماماً لفندق شيراتون الدقي حيث كان يقيم دكتور داهش. ولم أكن أنا أو أي من روّاد هذا الصالون من الكتّاب أو النقّاد نعرف هذه المعلومة.
اليوميات:
{ فى 8 آذار
مساء اليوم ذهبنا الى خان الخليلي , وهذه أوّل مرة أزور فيها هذا المكان الذي تباع فيه الصحون المختلفة الأحجام , والمطعّمة بالصدف …}
تعليقي:
فى عام 2022 تمّت استضافتي لمناقشة الرواية فى صالون ثقافي مكانه هو منطقة خان الخليلي!!
على بعد خطوات من حيث كان يتجوّل دكتور داهش , وبالقرب من هذه الأماكن التى وصفها بالتفصيل فى يومياته. وقد قمت بعد إنتهاء الندوة بجولة فى نفس الشارع والحوانيت التي وصفها الدكتور داهش قبل سنوات!
اليوميات:
{ فى 9 آذار 1971
وتوجّهنا بعد ذلك بالسيارة الى سراي وليّ العهد الأمير محمد علي , وقد أصبح الآن كمتحف يؤمّه أفراد الشعب .
ودخلنا الى قصر الأمير محمد علي , فإذا به منقوش ومزخرف بزخارف عربية , ومرصّعة جدرانه بالآيات القرآنية .}
تعليقي:
في صيف 2022 زرت – للمرة الأولى – هذا القصر وتجولت فيه بعد أن قرأت عنه ولم أكن أعرف أن الدكتور داهش زاره فى عام 1971 ورأيت كلّ ما وصفه الدكتور داهش بالفعل !!
اليوميات :
{ فى 10 آذار
وأكملنا طريقنا الى هليوبوليس , مدينة الشمس , فزرت قصر البارون امبان .
وشاهدت تماثيله التي تزيّنه وقد تقادم عليها العهد , فتحطّم بعض أجزائها , والبعض الآخر تآكل من فعل الطبيعة والزمان والإهمال ..}
تعليقي:
في صيف 2022 أيضاً زرت قصر البارون امبان – للمرة الأولى – بهدف بحثي حيث كنت أفكّر في أن أكتب عنه فى أحد فصول رواياتي القادمة .
ولم أكن أعرف أبداً بزيارة الدكتور داهش له.
ولا أعرف – حتى الآن – لماذا قمت بزيارة هذه الأماكن بالتحديد وأنا – أقسم – لم أكن قد قرأت كتاب رحلات الدكتور داهش بعد.
اليوميات:
{ فى 13 آذار
استقلّينا سيارة أوصلتنا الى فندق حوريس , وقد تناولنا فيه طعام عشائنا , وكنا جائعين حقاً. }
يوجد الفندق في 5 شارع 26 يوليو.
تعليقي:
هذا الشارع الذي يصفه الدكتور داهش مشيت فيه آلاف المرّات لأنه الشارع الذي يؤدي الى فندق جلوريا بشارع عماد الدين , كما أنّ في نهايته تقع المكتبات التي تبيع الكتب والمجلات القديمة وهي التي زرتها عشرات المرات للبحث عن كتب الدكتور داهش دون جدوى أثناء فترة تجهيزي للرواية وقبل كتابتها.
اليوميات:
{ فى 17 آذار
تجولت اليوم بشارع الفجالة , ودخلت الى عدد كبير من مكتباته , وابتعت منها مجموعة قيمة من الكتب الأدبية ..}
تعليقي:
شارع الفجالة هو من أحبّ الأماكن الى قلبي منذ سنوات وفيه:
موقف الأتوبيس الذي أسافر منه من القاهرة الى مدينتي.
وفيه الكثير من المكتبات التي كنت أتردّد عليها منذ عام 1998 وحتى الآن ويبدو أن حبّنا المشترك للكتب – الدكتور داهش وأنا – هو من كان يدفعنا الى التجوّل في هذا الشارع العتيق.
اليوميات:
{ فى 10 نيسان
استقليت سيّارة السيدة فوت , وجلس والدها على المقعد الخلفي ….. وذهبنا الى فندقٍ هدتنا إليه حورية هانم .
وصلنا الى الفندق , فندق جريشام هاوس , وهو يقع فى ميدان طلعت حرب وهو أشبه بمنزل منه بفندق .}
تعليقي:
على مسافة شارع واحد جانبي من ميدان طلعت حرب وحيث الفندق الذي أقام به الدكتور داهش , أقيمت ( أول ندوة لروايتي ) فى مايو 2021
وكان المكان الذي أقيمت فيه هذه الندوة يبدأ نشاطه الثقافي للمرة الأولى.
كلمة أخيرة:
عندما أفكّر فى كل تلك المصادفات ( القدرية ) تصيبني الحيرة :
كيف تمّ الترتيب والاعداد لمعظم ندوات هذه الرواية بالقرب من تلك الشوارع التي كان يسير فيها الدكتور داهش فى عام 1971 ؟!!
وكيف كنت أنا – أثناء فترة الإعداد لكتابة الرواية والتي قاربت السنوات الثلاث – أسير في هذه الشوارع عشرات المرات بحثًا عن معلومات عن الدكتور داهش , دون أن أدرك أن طيفه ربما لا يزال يسكن تلك الشوارع التي أحبّها.
وهذا البلد الذي أحبه كثيراً وكتب فيه هذه القصيدة التي أجتزأ منها هذه الأبيات:
{ فى 15 آذار
يامدينة القاهرة
لقد عدت إليك بعد أربعين عاماً
عدت إليك والشوق يحدوني لمشاهدتك
والرغبة تتملّك كياني للتجوّل فى أسواقك
والسير في شوارعك الكثيرة
والصعود الى برجك العصري الشامخ
ولتسلّق هرمك الخالد مثلما تسلّقته منذ أربعين من الأعوام البائدة
ولمخر نهرك المتلألىء المياه
ولأقف خاشعاً أمام أهرامك العجيبة
أهرامك العملاقة الجبارة المشمخرّة الثابتة بوجه الشمس المشرقة
……
ومنذ أربعين سنة تماماً كتبت عنك
يامصر , قطعة بدأتها قائلاً:
أحبّك يا مصر وأهواك, ونفسي ما تزال تتوق لرؤياك
وها قد عدت ثانية , وشاهدتك
وجلُت فى ربوعك بفرحٍ ومرحٍ عظيمين
وقاك الله ورعاك , ولأبناء النيل أبقاك
نعم, إنني أحبك , يا مصر , وسأبقى دائما وفياً لك }
***
إنها أسئلة لا أملك الإجابة عنها حقًا!