نزهة في أعماق النفس
وسار الشاب برفقة والده على رصيف الشاطئ البحري، حيث تنسما الهواء العليل وهما يشاهدان طيور النورس المصطبغة أجنحتها ذهبا بانعكاس أشعة شمس الغروب الحمراء.
لاحظ والد يزيد الكآبة البادية على وجه ابنه المسكين.
الأب: ما بك يا بني، أهكذا باتت الكآبة سمتك في الحياة؟! ألا تعلم أنه ينبغي عليك أن تكون مثالا في الأخلاق والتصرف، خصوصا أنك قطعت ردحا من عمرك في الخدمة العسكرية التي تعلم الاضباط وأخذ الأمور ببساطة وعفوية، لا بتعقيدها ثم البكاء على أطلال الأفكار السيئة التي بت أسيرها؟
يزيد: لا يا والدي، الأمر ليس بهذا البساطة، يكفي أنني من يشعر بالأمر، ألم يذكر جبران، في ما معناه أنه حتى أفكار أبنائكم ليسوا لكم، وأنهم أبناء الحياة….
الأب: هذا صحيح لكن مسؤوليتنا كآباء اتجاهكم هي الاهتمام بكم ومساعدتكم حين وقوعكم في زلات وعدم ترك حالتكم هذه تدهور، لكن بالطبع، إن خياراتكم في الحياة كأبناء هي عائدة لكم.
يزيد: أحاول التخلص من هموم الحياة لكنها تراودني كالظل. أحب الحقيقة… أبحث عنها… لكن أين نجدها، ومن يمكنه معرفة عقد النفس والفكاك منها.
الأب: يا بني خذ الأمور ببساطة. إبحث في قرارة نفسك عن مصدر ضيقك. كل ما يطرأ عليك من أمر جديد يضايقك فمرده الانطباع الذي يخلفه عقلك. فإن لم تدع تحليل العقل المحبط للنفس الذي يوعز لك الاستسلام جانبا فلن تنجو. و كوالد أؤكد لك، أعرف عدد من نواحي ضيقك النفسي، وسأساعدك قدر استطاعتي إن أنت اشتغلت على نفسك. لقد اعتدت يا يزيد بعيد انخراطك في الخدمة العسكرية منذ عشر سنوات الخضوع لأوامر مرؤوسيك، ما شكل لك عادة ملازمة في عقلك اللاواعي لتنفيذ ما يملى عليك دون التفكير في عواقبه، حتى بت لا تفعل شيئا دون أخذ إذن رئيسك الذي يراقبك ضمن منطقة حراستك الأمنية. العمل يا بني هو في حرية الإخلاص والضمير ولإرضاء الله وحده. لقد أخذتها عادة لا إرادية أن تنتهر كل من لا يلبي طلب التعليمات، نابذا حتى العمل الصالح من كل فرد غريب لمجرد دخوله نطاق حراستك التي يمنع فيها وقوف أي شخص، وحسبي بك أخذه/ا بعين الاعتبار عدوا لمجرد مشاهدته، وتحليل تصرفات العامة بسلبية مفرطة حتى بت تراهم أعداء، في عقلك اللاواعي أليس الأمر كذلك معك؟
يزيد(مغتاظا): والدي، دعني أشرح لك…
الأب: هل اغتظت لأنك سمعت الصواب؟ والداك هم مرشداك في الحياة بحسب وصايا الأنبياء والهداة.
الإبن: وهل قراءة روحية واحدة كافية لشفائنا؟!
الأب: القراءة وتطبيق ما نرى. الناس يا بني لم يخلقوا للتسيد على بعضهم البعض. بل للتكامل عالمين أننا واحد في الله، وكل يحمل نتيجة عمله حيث أنه في حياة الروح النقية، لا تعد من نفس على أخرى من أي ناحية، أكانت قوى روحية أو غيرها.
الإبن: في الحياة يوجد كل شيء، ثم يأتي أناس كثيرون مدعو الهداية وتخليص البشر من أحمالهم النفسية الرهيبة، فمن نتبع وأيهم نتحد فيه روحيا فكرا وقولا وفعلا، ثم أين الحياة الجديدة وكيف تولد فينا؟
الأب: لم يدعنا الخالق عز وجل وشأننا في الحياة بل بعث إلينا هداة لتخليصنا تشهد لهم الأكوان قاطبة. فالشهود حولهم هم خير برهان على صدق أعمالهم التي بذلت لنا كبشر بحاجة لمد طوق النجاة لنا. فالحياة الروحية في السماء يمكن تطبيقها على الأرض بنبذ السيالات السفلية من أنانية وحسد وبغض، والعمل على الفكاك منها بالصلاة وعمل الخير، وإذ ذاك تصفو النفس، فتشاهد انعكاسها في ما تراه في كل شيء حولك. فإذا كانت الحياة الروحية هكذا، فكم بالحري الأرضية حيث تجد في مكان ما صورة لمجتمع مخلص مؤمن تتمنى ان يكون في بيئتك، لكنك تستطيع أن تحيا تلك الحياة اذا رقيت نفسك وتناءيت بها عن كل فكر سام جالب للعصبية والغضب والهياج.ومن هو الإنسان لولا المساعدات الروحية التي تجمل أمامه طرق البر والتقوى.
الابن: لكن يا والدي من ذا الذي يعلمنا ويكفينا ما تتوق له نفوسنا من حلول فترسو نفوسنا عنده، فنتحد به وهو ، رمز، كمال في الله.
الأب: يا بني، الله قادر على كل شيء، وكما ورد في القرآن الكريم: رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاقي.
الابن: من هو إذن؟
الأب: لا أعلم لكنني مؤمن بأن أمرا كهذا محقق بإذنه تعالى.
الإبن ما زلت في بعض ريبة واضطراب من أمري فسامحني.
الأب: الكنز الروحي في داخلنا، وهو كل عمل روحي صالح وهو بمتناولنا، لا انتظار أي شيء يملى علينا فنحن أحرار في الله.
الإبن وقد سالت دموعه: حرية ماذا، أهو أن أذهب وأفعل ما أشاء لعلة أن فهمي بطيء؟ أهذا ما تقصده؟
وللحال احتضن الأب ابنه بحرارة وقد سالت الدموع منه على شعر رأس ولده، وإذا بنشيج ابنه يعلو قليلا ورأسه في صدر أبيه.
وللحال تناهت إلى مسامعهما أصوات طيور النورس وقد علا نعيقها وهي تحوم فوق رأسيهما. ما أن نظرا حولهما حتى شاهدا عددا غفيرا من الناس حولهما مأخوذون بهذا المشهد المؤثر. وإذا بشعاع الشمس الأخير يتمادى في تموج فوق مياه البحر كمن يودع الجمهور، بل وتتفاعل النوارس بنعيقها معهما.
الأب: أرأيت الشمس في غروبها وغيابها، هكذا ستشرق شمس الهداية التي تتوق إليها كل نفس في الإنسان؛ كل نفس بعيدة عن الأنانية. الشمس المادة الأرض بالحياة بدفئها، والأشجار بالحياة، لكنها تجذبها والكواكب حولها كمن تقول أنا معكم في المساعدة، غير آبهة لطوارق الزمان المعترضة، فكم بالحري النبي.
الإبن: ومن هو موحد الكون؟
الأب: هو الله عز وجل ومن شاء له بإذنه حين يرينا بعض من قوته بمعجزات أجرتها روح سماوي.
الابن وهو يصرخ: من تقصد بالتحديد؟
الأب لا أعلم، لكني استدل بالكتب السماوية…
بدت أشعة الشمس أثناء اغماضهما عيونهما بعد النظر إليها كسكك تؤدي إلى نور وهاج يبيد كل سم في الحياة وعائق. كأنها أشعة اتحدت في واحد.
وفجأة سمع صوت طائر نورس ينعق بالقرب من الحشد، وقد كتب على جناحيه اسم النبي الحبيب “داهش”.
ترى من أرسله، وهل الأمر مفتعل.
جعل الناس يسألون ويطلبون ويجدون في البحث عما وجدوه. وإذا بالحل وجواب الأجوبة متجل في شخصه وتعاليمه التي هي وحي السماء. فالداعي للناس للإيمان والواجد هو الله، مشهودا له من خلال أنبيائه الصديقين.
وبعد عدة سنوات، وبعد تقصي يزيد عن الحمامة عبر مشاركته اختباره الروحي ذاكرا الحمامة، عرف أنها حمامة أطلقها أحد المؤمنين من قفص قبعت فيه سنوات كثيرة، بعدما دون على جناحها اسم النبي الحبيب الهادي، وقد غطت في ذلك اليوم عند الساحل البحري حيث التقت مع زميلاتها للتحليق في فضاء الحرية، بالخير والاستقامة.