عظماء ومفكرون,  كتب وكتّاب

كتب وكتّاب: “إعترافات تولستوي “

 

الكاتب: ليف نيكولايفيتش تولستوي.

وُلد تولستوي في 9 سبتمبر 1828 في قصر ياسنايا بوليانا، جنوب موسكو، لعائلةٍ أرستقراطية ثريّة. توفيت والدته، ماريا فولكونسكايا وهو في الثالثة من عمره. أمّا والده، نيكولاي تولستوي، فكان كونتًا ومثقفًا، لكنّه توفي أيضًا بعد سنوات قليلة، ممّا جعل تولستوي يتربّى على يد أقاربه، وخاصةً مربّيته تاتيانا التي ظلّ يكنّ لها حبًا عميقًا طوال حياته.

في عام 1844، التحق تولستوي بجامعة قازان لدراسة اللغات الشرقية والقانون، لكنّه لم يكن طالبًا مجتهدًا وترك الجامعة دون الحصول على شهادة. عاش بعدها فترةً من الشباب المضطرب، غارقًا في حياة اللهو والقمار.

عاد إلى قريته ليشرف على ممتلكاته، وبدأ رحلة القراءة والتأمّل والكتابة. وخلال هذه الفترة كتب أولى رواياته الذاتية: “الطفولة”(1852)، “الصبا”(1854) و”الشباب”(1856) وهي ثلاثية تعكس تطوّره النفسي والاجتماعي، وتُعدّ من أولى محاولاته الأدبية التي لاقت ترحيبًا في الأوساط الثقافية الروسية.

في عام 1851، انضمّ إلى الجيش الروسي، وشارك في حرب القوقاز، ثمّ في حرب القرم، حيث شهد معركة سيباستوبول الشهيرة. تركت هذه التجربة أثراً عميقاً في نفسه وولّدت لديه نفورًاً من العنف والحروب، وهو ما تجلّى لاحقًا في كتاباته الداعية الى السلام واللاعنف. كتب خلال هذه المرحلة قصصًا مستوحاة من الحرب، منها: “حكايات سيباستوبول” (1855) و”القوزاق” (1863)  التي مزج فيها بين الواقعية والتأمّلات الفلسفية حول الشجاعة والموت والعبثية.

في ستّينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، بلغ تولستوي ذروة نضجه الأدبي وكتب أعظم أعماله ومنها: “الحرب والسلم” (1869) وهي ملحمة تاريخية تصور المجتمع الروسي خلال غزو نابليون، “أنا كارنينا” (1877) وهي روايةٌ نفسية واجتماعية عن امرأةٍ أرستقراطية تقع في حبّ ضابطٍ شاب وتواجه رفض المجتمع، و”البعث” (1899) وهي روايةٌ أخلاقية تنتقد النظام القضائي والطبقات الاجتماعية.

رغم شهرته ونجاحه الأدبي، دخل تولستوي في أزمةٍ وجوديةٍ حادّة شعر فيها بأنّ الشهرة والجاه والغنى المادي لا يمنحون الإنسان السعادة الحقيقية ولا يعطونه معنىً حقيقي لوجوده في هذه الحياة. فعبّر عن هذه الأزمة في كتابه “إعتراف”، الذي سيُتناول لاحقاً في هذا المقال.

وكان رغم إيمانه الجوهري الصادق بتعاليم السيّد المسيح، منفتحاً على مختلف الأديان والعقائد، فكتب “رسالة إلى هندوسي” (1908) مبدياً فيها إعجابه بتعاليم الهندوسية، بالإضافة إلى كتاب “حِكم النبي محمد” (1909) واعتبر فيه أنّ تعاليم الإسلام  تقود الإنسان إلى سواء السبيل ولا تقلُّ في شيء عن تعاليم الديانة المسيحيَّة.

عارض الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا ومال للإعتقاد بأنّ الكنائس المسيحيَّة فاسدة وضلّت الطريق. لم تتقبّل الكنيسة آراءه التحرّرية النيّرة، فكفّرته وطردته وأعلنت حرمانه من رعايتها.

أسّس مدرسةً لتعليم أبناء الفلاّحين، وكتب نصوصًا وكتباً تربوية وأخلاقية منها “ملكوت الله في داخلكم” (1894) وغيرها. 

تزوّج تولستوي من صوفيا بيرس عام 1862، وأنجبا 13 طفلًا. كانت زوجته تدير شؤون المنزل وتنسخ أعماله الأدبيّة، لكنها لم تشاركه في تطوّر شخصيّته وتحوّله الروحي، ممّا أدّى إلى توتّر دائم بينهما. في عام 1910، قرّر تولستوي مغادرة منزله سرًا، بحثًا عن السلام الداخلي بعيدًا عن الصراعات العائلية. لكنّه أصيب بالتهاب رئوي وتوفي في محطة قطار صغيرة تُدعى أستابوفا، عن عمرٍ ناهز ال82 عامًا. دُفن في ياسنايا بوليانا، تحت شجرةٍ كان يحبّ الجلوس تحتها.

كان له تأثيرٌ بالغ على نوابغ الأدب مثل دوستويفسكي وتشيخوف وغيرهم من الكتّاب العالميّين، كما ُدرّست أعماله في الجامعات حول العالم وتُرجمت إلى عشرات اللغات. ولكنّ تولستوي لم يكن مجرّد أديبٍ وروائي، بل تجاوز ذلك ليصبح مصلحًا إجتماعيًا، ومفكّرًاً أخلاقيًا، وفيلسوفًا روحيًا عالميّاً، مُلهِماً مُصلحين عظماء أمثال غاندي ومارتن لوثر كينغ في دعوته إلى اللاعنف والمقاومة السلمية.


الكتاب: “إعترافات” بقلم ليو تولستوي.

 

كتب تولستوي “إعترافه” عام 1879, ولم تسمح رقابة السلطة الكنسية الدينية بطبعه في بادئ الأمر، ولذلك طُبع في جنيف، سويسرا عام 1884.

يعدّ كتاب “إعترافات تولستوي” أحد أهمّ أعماله من حيث مشاركته مع القارئ لرحلته الداخلية بكل تناقضاتها وتسليطه الضوء على تطور شخصيّته من حالةٍ ماديّةٍ منغمسةٍ في حمأة الرغبات والملذّات الدنيوية الى أخرى روحانيّة اكتشف فيها معنىً حقيقيّاً لوجوده.

يكشف تولستوي في كتابه عن أزمةٍ وجوديةٍ وفكرية مرّ بها في منتصف حياته، وذلك رغم شهرته الأدبية الواسعة ونجاحه الاجتماعي آنذاك. فيطرح أسئلةً وجوديّة عن معنى الحياة والهدف منها ويصف كيف فقد إيمانه بالمسيحية الأرثوذكسية وأفكارها التقليدية التي نشأ عليها، إذ رأى أنّ الطقوس الدينية أصبحت شكلية، وبدأ يشكّ في كل شيء لدرجة أنّ وصل به اليأس إلى التفكير في الانتحار.

ثم ينتقل بعدها الى بحثه الجادّ عن الحقيقة في الفلسفة والعلم، ولكنّه لم يستطع أن يجد فيهما ضّالته. فبدأ يبحث في الدين ويصرّح كيف أدرك فيه خلاصه عبر ما يصفه بالإيمان الداخلي المستمدّ من حاجة روحية تنبع من القلب، لا من العقل. كما سلك طريق العودة الى البساطة بعيداً عن ترف الحياة وبذخها ووجد في حياة الفلاحين الروس نموذجًا للإيمان البسيط والعملي، ممّا ألهمه لتغيير نمط حياته بالكامل.

كما يعلن تولستوي استنتاجه وإيمانه المطلق بأنّ الحياة يصبح لها معنىً حقيقياً فقط إذا ارتبطت بخدمة الآخرين ومحبّتهم، وإدراكه أنّ هذه المحبّة حرّرته من ضلال العدمية والفراغ وأعطت حياته معنىً أعمق للحياة، معنىً متصل بالله والإنسانية.


مقتطفات من كتاب “إعترافات تولستوي”


– جاء في إحدى القصص الشرقية القديمة أن رجلاً كان يطارده وحشٌ شرسٌ بريّ، فلجأ الرجل إلى بئر لا ماء فيها لينقذ نفسه من شر الوحش. و لكنه لسوء حظه لم يدخل البئر حتى رأى في قعرها تنيناً فاغراً فاه ليبتلعه. فأخذ الرعب بمجامع قلب الرجل المسكين ولكنه لم يجرؤ على الخروج من البئر خوفاً من التنين. ولذلك عمد إلى غصن شجرة صغيرة كانت ثابتة في شقوق البئر. ولكن التعب أخذ من ذراعيه مأخذه فأدرك أنه هالك لا محالة، لأن الموت كان ينتظره في الأمرين جميعاً. ولكنه ظل متعلقاً بها ورأى جرذين الواحد أبيض والثاني أسود يدوران حول جذع الشجرة، وهما يقرضانه بهمّة ونشاط. رأى كل هذا وأدرك أن الشجرة ستسقط قريباً فيقع هو في فم التنين الذي كان يترقبه بفارغ الصبر. ولكنه نظر في الوقت نفسه بضع نقط من العسل على أوراق الشجرة فمد لسانه وشرع يلحسها متناسياً شقاءه كله.

​- لقد كنت أعيش حياة الأنانية، حياة الشهوات، حياة الكبرياء. لقد كنت أعيش حياة بلا معنى، حياة فارغة.

– صرتُ بإستسلامي لأهواء نفسي مماثلاً لابناء عشيرتي شاعراً برضاهم عن تصرّفي .

 – كان الموت هو السيف المسلّط على عنقي، الذي دفعني إلى البحث عن معنى الحياة، لا لأنّي أردت أن أعيش، بل لأنّي لم أعد أحتمل العيش بلا معنى.

​- لقد كان اليأس هو الذي قادني إلى البحث عن الإيمان. اليأس هو الذي فتح عيني على حقيقة أن الحياة لا يمكن أن تكون مجرد سلسلة من الأحداث العشوائية.

– قال سقراط:  ” نحن ندنو من الحقّ كل ما بعدنا عن الحياة”.

– ومع أنّي ظللت أعتقد أنّ الإيمان بعيدٌ عن أحكام العقل ، فلم أجد بدّاً من التسليم بأن الإيمان وحده منح الانسان جواباتٍ معزيّة على مسائل الحياة ومهّد أمامه العقبات الحائلة دون سعادة حياته.

– الإيمان ليس مجرد عقيدة، بل هو طريقة حياة. هو أن تعيش حياتك وفقًا لمبادئ الحب والرحمة والتسامح.

– لقد وجدت في إيمان الفلاحين البسطاء ما لم أجده في إيمان الطبقة المثقفة.

– الإيمان الحقيقي الكامل هو معرفة معاني الحياة الانسانية معرفةً حقّاً تحمل الإنسان على محبّة الحياة و المحافظة عليها.

– أدركت أنّ الحقيقة لم تحجب وجهها عنّي لمجرّد غلطي في التأمّل و التفكير فقط و لكنّها حُجبت عنّي من أجل معيشتي الشاذّة وأعمالي الخاطئة.

– فرأيت بوضوحٍ أنّ على الراغب في إدراك معنى الحياة أن يعيش هو نفسه أوّلاً حياةً بعيدةً عن الشرّ ممتلئةً بالمعاني الصالحة ، وحينئذٍ تستنير بصيرته فيرى المعنى الحقيقي لحياته.

– إنّ في الوجود إرادةً كليّةً تدير كلّ ما فيه من الكائنات، فإذا لم أقم أنا بقسطي من الواجب في الوجود فإنّي لن أعرف شيئاً عن هذه الارادة و لا عن الوجود الذي أنا جزءٌ منه.

– إنّ اقتناعي بخطأ المعرفة المبنية على العقل وحده قد ساعدني على تحرير نفسي من التفكير العقيم.

– حين بدأتُ أعيش من أجل الآخرين، حين أحببتهم وخدمتهم، شعرت بأنّني تحرّرت من عبء الذات، وأنّ حياتي اكتسبت معنىً جديدًا.

– كلّما آمنت بالله أشعر بالحياة، وكلما أعرضت عن هذا الإيمان اشعر أنني ميتٌ بالحقيقة. إنّ ما تنشدَه هو الله ، هو الكائن الذي لا قوام للحياة بدونه. فالحياة ومعرفة الله واحدٌ عند التحقيق. والله هو الحياة.


– المراجع:

– Aljazeera.net
– Ar.wikipedia.org
– إعترافات تولستوي، ترجمة أنطونيوس بشير.


 

error: Content is protected !!