حلم سكيبيو
شيشرون
ولد ماركوس توليوس شيشرون (106 ق.م – 43 ق.م) في أربينوم، إيطاليا. وقد جاء من عائلة ثرية وتلقى تعليمًا واسعًا في روما واليونان. كان شيشرون رجل دولة ورومانياً بارزاً، كما كان محاميًا، وعالمًا، وكاتبًا. جاهد من أجل الحفاظ على مبادئ الجمهورية خلال السنوات الأخيرة المضطربة للجمهورية الرومانية. يحتفى به كواحد من أعظم خطباء روما وكتابها وله مساهمات مهمة في البلاغة والفلسفة والسياسة. تشمل أعماله البارزة كتابات في البلاغة، مثل “في الخطابة”، ونصوص فلسفية مثل “في القوانين”، والعديد من الخطب والرسائل التي تخدم كشواهد مهمة وأساسية على المشهد السياسي في عصره.
واحدٌ من أكثر أعمال شيشرون إثارة للاهتمام هو “حلم سكيبيو”. ووهو جزء من عمل أكبر تحت مسمى (عن الجمهورية). تمثل هذه القطعة الأدبية رؤيا خيالية عاشها الجنرال الروماني سكيبيو أميليانوس حين زاره جده المتوفى سكيبيو أفريكانوس (الجدّ سكيبيو أفريكانوس- القائد الروماني الذي هزم هنيبعل في قرطاج) في الحلم. فيكشف له فيها عن أسرار وآراء عميقة حول الكون وطبيعة الروح والفضيلة والأخلاق. يشدد الحلم على وهم وتفاهة الاهتمامات الأرضية الفانية مقارنة بعظمة الكون والطبيعة الأبدية الخالدة للروح. كان ل- “حلم سكيبيو” أثراً بالغاً في العديد من المدارس الفلسفية والأدبية، خاصة من حيث نوعية بحثه في المواضيع الرواقية والنيوأفلاطونية.
حلم سكيبيو
عندما وصلت إلى إفريقيا لأخدم تحت قيادة الجنرال مانياس مانليوس، كوني كما تعلمون، قائد عسكري مرتبط بالفيلق الرابع، لم أعتبر شيئًا أكثر أهمية من لقاء ماسينيسا، الأمير الذي كان لأسباب وجيهة مرتبطًا جدًا بعائلتنا.
عندما جئت إليه، احتضنني الرجل العجوز وبكى؛ ثم نظر إلى السماء وقال: “أشكرك، أيها الشمس العظيمة، وأنتم، أيها الكائنات السماوية، لأنني قبل مغادرتي لهذه الحياة، أرى في مملكتي وفي منزلي بوبليوس كورنيليوس سكيبيو، والذي بمجرد ذكر اسمه أشعر أنني أصبحت شابًا مرة أخرى: وذلك رغم ذكرياتي الحاضرة دائماً قي قلبي عن ذلك البطل العظيم الذي لا يقهر.” بعد ذلك سألته عن مملكته وسألني عن جمهوريتنا؛ وبين هذه الأحاديث وتلك، قضينا اليوم كله.
ولكن في المساء، حيث تم استضافتي بشكل ملكي، أطلنا حديثنا حتى وقت متأخر من الليل؛ وكان الرجل العجوز لا يتحدث سوى عن أفريكانوس ويستذكر ليس فقط أفعاله بل أقواله أيضًا.
بعد ذلك، عندما افترقنا في الليل، وبعد رحلتي ومن بعدها بقائي لساعة متأخرة في الليل، غمرني النعاس والنوم بشدّة أكبر من المعتاد.
ثمّ ظهر لي، حسب إعتقادي، مِن وحي ما كنّا نتحدث عنه -لأنه غالبًا ما يحدث أن أفكارنا ومحادثاتنا تولّد في النوم بعض الخيال مثل ذلك الذي يسجله إينيوس عن هوميروس، الذي كان بالتأكيد في لحظات يقظته يفكر ويتحدث عنه كثيرًا – ظهر لي أفريكانوس، بهيئة هي أقرب للّتي أعرفها في صوره من شكله الحقيقي. عندما عرفته، ارتعدت، لكنه قال: كن شجاعًا واطرد الخوف، يا سكيبيو، وسجّل ما سأقوله:
“هل ترى تلك المدينة، التي رغم أنها أُجبرت بأسلحتي على الانصياع لشعب روما، تعيد إحياء ذكرى الحروب القديمة ولا تستطيع أن تستريح بسلام،” – الآن كان يظهر لي قرطاج، من مكان عالٍ، مليء بالنجوم، مشرق ومتألق-” تلك المدينة، التي تهاجمها الآن تقريبًا كجندي عادي؟ في غضون هذين العامين ستدمّرَها كقنصل؛ وذلك اللقب، الذي حتى الآن كنت تحمله كإرث مني، ستحصلَ عليه بإنجازك الخاص. ولكن عندما تهدم قرطاج، وتحتفل بالنصر، وتشغل منصب الرقيب، وتسافر في مهمة عبر مصر وسوريا وآسيا الصغرى واليونان، سيتم انتخابك قنصلًا للمرة الثانية رغم وجودك في الخارج؛ وستُنهي حربًا مهمة جدًا، وستدمر نومنسيا تمامًا. ولكن عندما تركب في عربة النصر إلى الكابيتول، ستجد الدولة مضطربة بشدة بسبب مؤامرات حفيدي.
هنا، يجب أن تظهر للوطن ضوء شجاعتك وعبقريتك وحكمتك.
ولكن في ذلك الوقت، أرى مسير القدر، إذا جاز التعبير، مترددٌ بين طريقين. لأنه عندما تكمل حياتُك سبع مرات ثماني دورات كاملة من الشمس في دورة الطبيعة؛ وهذان الرقمان، كلّ منهما لسبب مختلف يعتبر رقمًا مثاليًا، تكون قد أكملَت المقدّر لك؛ لك وحدك ولإسمك سيتوجّه المجتمع بأكمله: مجلس الشيوخ، جميع المواطنين ذوي التفكير السليم، الحلفاء واللاتينيون، جميعهم سيثبّتون أعينهم عليك؛ وستكون الرجل الوحيد الذي يمكن للمجتمع الاعتماد عليه من أجل حفظ الأمن والأمان؛ وباختصار، كديكتاتور، يجب أن تصلح الدستور، هذا إذا استطعت تفادي أذى وعنف أقاربك.
“في هذه اللحظة، بعدما صرخ لايليوس وجميع الآخرين وتنهدوا بشدة، قال سكيبيو بابتسامة لطيفة، ‘هشش! من فضلكم، لئلا توقظوني من نومي، واستمعوا قليلاً إلى الباقي،
ولكي تكون أكثر استعدادًا للدفاع عن الدستور، اعلم هذا: كلّ من حفظ وطنه، وعزّزه، وأغناه، له هناك في السماء مسكن مؤكد ومخصص، حيث يمكنه الاستمتاع بالسعادة الخالدة.
ذلك لأنّه لا يرضي الإله الأعلى الذي يحكم الكون كله شيئاً أكثر في هذا العالم، من التآلف والإتحاد بين الرجال على أسس قوانين مشتركة، والتي تُسمى أمم. فمن هذا المكان أتى حكّامها والذين يحموها، وإلى هذا المكان سوف يعودون.”
هنا، رغم أنني كنت مرعوبًا بشدة، ليس من الموت بقدر ما هو من الخيانة من رجال بيتي، وجدت الشجاعة لأسأل إذا كان هو نفسه حيًا وأبي باولوس وآخرين من الذين كنا نعتبرهم أمواتًا. فقال: “نعم، إنهم أحياء بالفعل، هؤلاء الذين انطلقوا بعيدًا عن قيود الجسد، كما لو أنه كان سجناً؛ ولكن حياتك، كما تسمى، هي في الواقع موت.
انظر إلى باولوس، والدك، قادمًا نحوك!
عند رؤيته، ذرفت دموعًا غزيرة، لكنه احتضنني وحاول بقبلاته أن يوقف بكائي، وبمجرد أن بدأت أستطيع التحدث، بعدما كتمت دموعي، قلت: “أرجوك، أخبرني، يا أفضل الآباء وأكثرهم تبجيلاً: بما أنّه هذه هي الحياة، كما أسمع أفريكانوس يقول، لماذا أبقى على الأرض؟ لماذا لا أسرع وآتي إليك هناك؟” قال: “ليس كما تظن، لأنه ما لم يطلقك من جسدك ذلك الإله الذي تنتمي إليه كل هذه المنطقة التي تراها، لا يمكن الدخول إلى هذا المكان.
لأن البشر خُلقوا خاضعين لهذا القانون، للبقاء على ذلك الكوكب، الذي تراه في مركز هذه المنطقة والذي يسمى الأرض؛ وأعطيت لهم روح مكونة من تلك النيران الأبدية، التي تسمّوها أنتم البشر الفانون الكوكبات والنجوم، والتي بشكلها الدائري وإدراكها الإلهي، تكمل مداراتها ومساراتها بسرعة مذهلة.
لذا، يا بوبليوس، يجب عليك وعلى جميع الرجال الصالحين أن تسمحوا للروح بالبقاء في أمان الجسد، ولا يجب أن تفرّطوا في حياتكم البشرية بدون أمر الذي أعطاكم إياها، لئلا تبدو وكأنكم قد هجرتم المهمة التي عيّنها الله للبشر.
لكن بالأحرى، يا سكيبيو – مثل جدك هنا، ومثلي أنا والدك – اتبع العدالة والعاطفة النبيلة، التي على الرغم من عظمتها حيال الوالدين والأقارب، هي الأعظم على الإطلاق فيما يتعلق بوطننا.
هذه هي الطريق التي تقود إلى السماء وإلى الانضمام الى من عاشوا حياتهم ومن ثم تخلّوا عن أجسادهم ليعيشوا في ذلك المكان الذي يمكنك رؤيته،” – الآن كان ذلك المكان دائرة بارزة بين نيران السماء ببياضها المتوهج الفائق – “ذلك المكان الذي تسمّونه أنتم البشر، كما تعلمتم من الإغريق، درب التبانة.”
وعندما نظرت إليها من هذه النقطة، بدت جميع الأجرام السماوية الأخرى مجيدة ورائعة، وظهرت النجوم بشكل لم نره من قبل وبعظمةٍ لم نكن لنحلم بها؛ وأصغرها جميعًا كان ذلك الكوكب، الذي كان أبعد ما يكون عن الأجرام السماوية والأقرب إلى أرضنا، وكان ضوئه إنعكاس من مصدر آخر، لكن هذه النجوم جميعها تجاوزت الأرض عظمةً – بالفعل بدت لي الأرض نفسها صغيرة جدًا، لدرجة أنني حزنت عند التفكير في إمبراطوريتنا، والتي تغطي مجرد نقطة صغيرة من سطحها.
وإذ أطلت النظر إليها، قال أفريكانوس: “تعال! إلى متى سيظل عقلك مقيدًا بالأرض؟ ألا ترى إلى أي أبعادٍ قد وصلتَ؟
انظر! الكون مرتبط في تسع دوائر أو بالأحرى كرات سماوية؛ واحدة منها تابعة للسماوات العليا، الأبعد فيهم، وهي تحتضن جميع الكرات الأخرى، هي الإله الأعلى، الذي يحافظ على جميع الآخرين ويجمعهم معًا؛ ومن خلاله ترتبط تلك المدارات الأبدية للنجوم. تحت كل هذا توجد سبع كرات، تدور عكس اتجاه السماء؛ ومن بين هذه الكرات تحمل واحدة منها ذلك النجم الذي يسميه الناس على الأرض نجم زحل.
كما ترى إشعاعاً ساطعاً، غنياً بالأمل والشفاء لأبناء البشر، والذي يسمى نجم جوبيتر؛ ثم إشعاعٌ أحمر ناري ذو رهبة، والذي تسمونه المريخ؛ وها هي الشمس تحتل تقريبًا المنطقة الوسطى، تقود وترأس وتحكُم الأضواء الأخرى، فهي العقل والروح المنظمة للكون،ذو قدرٍ عظيمٍ لدرجة أنها تضيء ما حولها وتملأه بنورها. يواكبها كواكب الزهرة وعطارد كأقمار تدور في مداراتها الخاصة؛ وفي منطقة أدنى من تلك، يدور القمر مضاءاً بأشعة الشمس.
وتحت كل هذا لا يوجد شيء سوى ما هو فانٍ وعابر باستثناء تلك الأرواح التي منحتها الآلهة لأبناء البشر؛ أمّا ما هو فوق القمر فأبدي. أما الأرض، الجرم التاسع والمركزي، فهي لا تتحرك ولكنها النقطة الأدنى، وإليها تميل جميع الأجسام الثقيلة تحت تأثير جاذبيتها الخاصة.
وأثناء تمعّني بدهشة إلى كل ذلك، عدت إلى نفسي وسألت: “ما هذا الصوت الذي يملأ أذني،صوت عالي وجميل؟” “هذا”، أجاب، “هو ذلك الصوت، الذي ينقسم إلى فترات، غير متساوية، ولكنها لا تزال مقاسة بدقة في نسبها الثابتة، وينتج عن اندفاع وحركة الأجرام السماوية نفسها، فتُمزج النغمات الحادة مع العميقة، مما يصنع سيمفونيات متغيرة في تناغم ثابت. لأنه ليس فقط من المستحيل أن تتمّ مثل هذه الحركات الهائلة في صمت؛ ولكن، بموجب قانون طبيعي، تعطي الأجزاء الخارجية من جهة صوتًا عميقًا، ومن الجهة الأخرى صوتًا حادًا. لذلك، فإن الأعلى من الجميع، المنطقة السماوية المتوّجة بالنجوم، والتي تدور بسرعة أكبر، تتحرك بنغمة حادة وعالية؛ بينما تلك الخاصة بالقمر، ولأنها الأدنى، تتحرك بنغمة أعمق من الجميع. أما الأرض، التي هي التاسعة، فتبقى ثابتة دائمًا في مكان واحد، متشبثة بمركز الكون. ودورات تلك الكرات الثمانية، التي لها نفس القوة، تنتج سبعة أصوات بفواصل واضحة؛ وهذا العدد، بشكل عام، هو الرابط الغامض لكل الأشياء في الكون.
وقد أمّن الخلاّقون الموهوبون طريق عودتهم إلى هذا المكان من خلال تقليد تلك الانغام باستخدام الآلات الموسيقية الوترية والألحان، مثلما عاد إليه آخرون ممّن اتبعوا أهدافًا إلهية أثناء حياتهم وعبر أعمالٍ نبيلة.
ولكن آذان البشر أضحت صمّاء جراء عظمة الصوت ؛ وليس فيكم حاسة أضعف من حاسة السمع؛ فعلى سبيل المثال، في كاتادوبا، كما يطلق عليها، حيث يتدفق النيل من الجبال العالية جدًا، فقدت القبيلة التي تسكن بالقرب من تلك البقعة حاسة السمع بسبب ارتفاع الضجيج. وهذا الصوت الذي يصدره الكون كله وهو يدور بأقصى سرعة هو صوت رهيبٌ للغاية لا تستطيع آذان البشر احتواؤه؛ تماماً كما لا تستطيع أن تنظر مباشرةً إلى الشمس، إذ تغلب أشعتُها على بصرك وإدراكك».
ورغم تأثري بعظمة هذه العجائب، إلا أنني ظللت أميل بنظري نحو الأرض.
عندئذ قال أفريكانوس، “أرى إنك رغم كل هذا لا تزال تنظر الى مثوى البشر. ولكنك إذا أدركت تفاهته، وهو الواقع، فسوف تتطلع دائمًا إلى هذه الأبعاد السماوية ولن تهتم مجدداً بأمور الإنسان. لأنه ما هي الشهرة بين البشر، وأيّ مجد يستحق السعي وراءه؟ ألا ترى أنه لا يسكن البشرُ سوى مساحات أرضٍ متناثرة وضيقة؛ تتخللها الصحاري الشاسعة؛ وحتى بين أولئك الذين يعيشون على الأرض، تفرقهم مسافات تمنع أي اتصال فيما بينهم، بل يعيش البعض منهم في مناطق معاكسة؛ وبعضهم حتى في النقطة المقابلة لك من الأرض؛ وجرّاء هذا، على أي حال، لا يمكنك أن تتوقع أي مجد.
ثم ألا ترى أن هذه الأرض مطوّقة ومحاطة بأحزمة معينة إذا جاز التعبير؛ اثنان منها، أبعد ما يكون عن الآخر، ويستقران على قطبي السماء في طرفيهما، وقد أصبحا متصلبين جرّاء الصقيع؛ بينما الذي في المنتصف، وهو الأكبر، يحترق بسبب حرارة الشمس الملتهبة. اثنان منها صالحان للسكن، الجنوب حيث أناسه في جهةٍ معاكسة لكم وليس لهم أيّ صلة بعرقك. ونصف الكرة الأرضية الشمالي، حيث تعيش، ولكن أنظر إلى مدى صغر المساحة التي تهمك منها! فهي ضيقة في اتجاه القطبين، أوسع شرقًا وغربًا، وبمثابة جزيرة صغيرة تحيط بها مياه ذلك البحر العظيم، الذي تسمونه على الأرض المحيط الأطلسي، ولاحظ رغم إسمها العظيم كم هي حقيرة وصغيرة.
وإنطلاقاً من هذه الأراضي المألوفة لديك، هل كان بإمكان اسمك أو إسم أي من بني عرقك أن يتسلق ما وراء قمة القوقاز هنا أو يعبر مياه نهر الغانج هناك؟ من في المناطق النائية الأخرى من حدود شروق الشمس وغروبها أو من الشمال أو الجنوب سيسمع بإسمك؟ ألا تعي بيقينٍ كم هو تافه وضيق ذلك المجال الذي يطمح إليه مجدك البشري؟ بل وأكثر من ذلك، حتى الرجال الذين يمجّدون إسمك الآن، إلى متى سيمجّدون؟
وحتى ولو مجّدت الأجيال القادمة المتعاقبة من أب إلى إبن إسمَ كل واحد منّا، وبما أنه لا مفرّ من حصول الفيضانات والحرائق بشكلٍ دوري، فليس بالإمكان أن نكتسب شهرة دائمة، ناهيك عن شهرة أبدية. وما أهميّة أن يذكرك من سيولد بعدك إذا يكن فيهم من ولد قبلك؟ إذ رغم أنهم لم يكونوا أقل عددًا، لكنهم كانوا رجالاً أعظم.
وأكثر من هذا، فإنه حتى بين هؤلاء الرجال الذين يمكن أن يعرفوا إسمنا، لا يستطيع أحد أن يضمن سمعته عندهم لمدة عامٍ واحد. ومن المؤكد أن البشر عادة ما يقيسون السنة بعودة الشمس، أي جرمٍ سماويٍ واحد: ولكن عندما تعود جميع الأبراج السماوية معًا إلى نفس النقطة التي بدأت منها؛ وبعد فترات طويلة حين يتم بعدها العودة الى ترتيب نظم السماوات كما كانت من قبل، عندها فقط يمكن أن نطلق على ذلك حقًا عام الدوران: وهو ما لا أجرؤ على تحديد عدد أجيال البشر التي يحتويها. لأنه كما عندما شقّت روح رومولوس طريقها إلى هذه المناطق السماوية، بدت الشمس لعيون الناس كأنها تختفي وتظلم، وهكذا كلما تكسف الشمس مرة أخرى في نفس الوقت، ، وبعد أن تكون قد عادت جميع الأبراج والنجوم إلى وضعها الأصلي، يمكنك القول عندها أن السنة قد اكتملت. ولكن من هذا السنة، إعلم أنه لم يمرّ حتى الآن سوى الجزء العشرون منها.
لذا، إذا فقدتَ الأمل في إمكانية العودة إلى هذا المكان، ذلك الهدف الذي يعلّق عليه الرجال العظماء كل آمالهم، فما قيمة مجدك البشري عندها، والذي لا يكاد يؤثر على جزء ضئيل من عام واحد؟ لذلك، إذا اخترت أن تسعى إلى ما هو أسمى وتثبّت نظرك على موطننا الأبدي ومقرّ راحتنا، لا تستعبد نفسك أبدًا لأقاويل الرعاع، ولا تعلّق آمال حياتك على مكافآت البشر: بل فلتجذبك الفضيلة الى المجد الحقيقي؛ فما يقوله الآخرون عنك هو شأنهم الخاص؛ ومع هذا فإنهم سيتحدثون. ولكن كل أحاديثهم ستبقى ضمن تلك الحدود الضيقة التي تراها وستفنى وتدفن معهم وسنتهي بالنسيان في مهبّ الآجال الآتية.”
عندما انتهى من حديثه، قلت: ” يا أفريكانوس، إذا كان يوجد بالفعل طريقٌ لأبواب السماء مخصصٌ لأولئك الذين استحقّوا الخير في وطنهم الأصلي، وعلى الرغم من أنني لم أبخل في إكرامك، ومذ طفولتي وأنا أتتبّع خطى والدي وخطاك، ولكن الآن، مع هذه المكافأة العظيمة السانحة أمامي، سأجاهد بإنتباهٍ وبحزمٍ أكبر.”
قال: “جاهد بثبات وكن على يقين من ما سأقوله الآن: لست أنت الفاني، بل هذا الجسد. ولستَ ما يُنظر أو يؤشّر إليه كجسم مادي، فعقل الإنسان المدرِك هو الانسان. إعلم إذن أنك إله؛ لأنه وحده الإله من يمتلك الطاقة والشعور والذاكرة والبصيرة ليوجّه ويحرّك ويسيطر على هذا الجسد. وهو يسوده تمامًا كما يسود الإله الاعظم والأسمى هذا الكون. وكما يحرّك هذا الكون الفاني الله وهو نفسه سرمدي، كذلك الجسد الضعيف تحركه روح خالدة.
فالذي يتحرّك في كل زمن وحين هو أبدي. ولكن الذي يعطي حركة لشيء ويتلقى هو نفسه حركته من مصدر آخر، لا بد أن يكون عمره محدود، إذ ستنتهي حركته في وقتٍ ما. إذن ذلك الذي يتحرك من تلقاء نفسه، لا يفترق عن ذاته أبدًا ولا يتوقف عن الحركة. فهذا هو المصدر، وهو العلة الأولى لحركة سائر الأشياء المتحركة.
والعلّة الأولى ليس لها أصل؛ لأن كل الأشياء تنشأ منها ولا يمكن أن تنشأ من أي شيء آخر. فليس بالإمكان ان تكون علة أصلية لو كانت نتيجة شيءٍ آخر. وبما أنه ليس لها أصل فهي لا تفنى أبدًا. فلو أُفترضَ أن فني السبب الأصلي مرة واحدة، فلن يكوّنه مجدداً سبباً آخر ولا يعود ليخلق شيئاً؛ لأن كل الأشياء يجب أن تنبع بالضرورة من السبب الأصلي. لذلك نرى أن العلة الأصلية للحركة تحيا في ذاتها وتحرك نفسها بنفسها. ولا يمكن أن تولد أو تموت؛ وإلا فإن أسس السماوات والوجود كله سينهار ويقوّض، ولن تجد عندها أي قوّة لتعطيها الدافع الأول للحركة.
إذًا فمن الواضح أن الدافع الذاتي هو أبدي، فمن يستطيع أن ينكر أن هذه الصفة هي صفة أرواحنا؟ لأنه، في حين أن الأشياء التي لا روح لها تتلقى هذا الدافع من مصدر خارجي، من لديه روح، يتحرك بدافع داخلي خاص به. فهذه هي خاصية الروح الطبيعية وجوهرها. وإذا كان هذا هو الشيء الوحيد في العالم الذي له دافع ذاتي، فمن المؤكد أنه ليس له بداية وهو أبدي.
إسعَ بهذه الروح في أسمى الأعمال. وأسماها هي تلك الأنشطة والجهود التي تخدم مصلحة الوطن. فالروح التي تحيى وتبذل هذه الجهود والاعمال تدرك بسرعة أكبر موطنها ومستقرها. وستحقّق هذه الروح مرادها بسهولة أكبر إذا نبذت جسدها المسجونة فيه ملتسمةً الانعتاق منه.
أما أرواح أولئك الذين استعبدوا أنفسهم لملذات الجسد وأصبحوا عبيده، واستسلموا لتأثير الشهوات منتهكين قوانين الله والإنسان؛ فعندما تنفصل عن أجسادهم، تهيم على وجهها في الأرض ولا تعود إلى هذا المكان إلا بعد مرور أزمنة طويلة من التّيه.”
ورحل، واستيقظت من حلمي.