لمحات من آراء غاندي في الدين والاديان
بقلم المحامي فارس زعتر
*مقال في جزئين.
الجزء الأول:
ليست الغاية من هذه المقالة شرح أفكار غاندي الدينية، لأن هذه الأفكار محيطٌ زاخر يضم كافّة مجالات وتفاصيل حياته الصغيرة منها والكبيرة على حدّ سواء. بل الغاية منها هي إلقاء الضوء، على بعض الجوانب المتميزة بخصوصيتها وجرأتها والتي تعكس مدى تطور عقليته الدينية وتحرّرها، مع التأكيد على أنه لم ينسب لآرائه وأفكاره في هذا المجال، كما في سواه من المجالات، أية عصمة أو أية صفة نهائية.
ولا بدّ من الإشارة، بادىء ذي بدء، إلى أن آراء غاندي الدينية ليست ترفاً فكرياً، ولا هي حصاد كتبيّ، ولا محصلة رياضة عقلية في عالم الأفكار والمجرّدات الفلسفية، بل نتاج تجربة حياتية كاملة وجزء لا يتجزّأ منها. وصاحب هذه التجربة الحياتية الفريدة مدرك إدراكاً كاملاً لمسؤوليته الشخصية والوطنية والانسانية، وما لمواقفه وآرائه في المجال الديني الحسّاس خصوصاً من انعكاساتٍ وآثار بعيدة المدى على مصير بلاده وعلى ما يتجاوز حدودها.
١ – أول ما تنبغي ملاحظته هو أنه قد يبدو وجود تناقض جوهري في موقف غاندي القائل من جهة، بأن الدين لديه هو الحياة بأكملها، وأن سياسته مستمدّة من دينه(١)، وتأكيده من جهة أخرى على وجوب فصل الدين عن الدولة، وبالتالي على علمنة الدولة. فقد أعلن بكلماتٍ قوية حازمة وحاسمة ما يلي:
“لو كنت دكتاتوراً، لقضيت بفصل الدين عن الدولة. أقسم على ذلك بديانتي وأنا مستعدّ للموت من أجلها. ولكن ديانتي هي شأنٌ خاص بي، وليس للدولة أيّة علاقة بها، على الدولة أن تهتم بالرعاية المدنية والصحة والاتصالات والعلاقات الخارجية والنقد وما إلى ذلك، ولكن ليس بديانتك أو بديانتي. فالدين شأنٌ خاص بكل إنسان .”(٢)
والحقيقة، ليس ثمّة تناقض على الإطلاق في موقف غاندي:
أ- فعندما يتحدث غاندي عن الدين، وأن سياسته مستعدة من دينه فهو لا يعني بذلك الهندوسية، ولا ديناً معيناً بذاته، بل يعني به الدين بمعناه الأوسع المرادف بجوهره للمناقب والأخلاق، مثلما سيأتي بيانه لاحقاً. وما من سياسيّ بإمكانه أن يدّعي بأن علمانية الدولة تعني وجوب تخلّيه عن ما يؤمن به من قيمٍ ومبادىء خلقية. الفرق، طبعاً، بين المشتغلين في الحقل العام، هو في مدى اقتناعهم وإيمانهم بهذه المناقب.
ب- إنّ قول غاندي بفصل الدين عن الدولة مستمَد أيضاً من مبدأ ديني أساسي لدى غاندي، ألا وهو حرية الفرد الشخصية المطلقة بتكوين قناعاته الدينية بذاته وبأن يؤمن بدين معين أو بعدد من الأديان إلى جانب دينه أو بأن لا يؤمن بأي دين على الاطلاق . فالدين بجوهره يهدف الى تحقيق الذات أو الكمال، ولا يمكن للفرد أن يحقّق ذاته إلا باختياره الواعي وعبر قناعاته، ولا يحقّ لأحدٍ (ومن بابٍ أَولى لا يحق للدولة ) أن يلزم الآخرين بالتصرف وفقاً لقناعاته:
“تكمن الحقيقة في قلب كل إنسان، وما على المرء إلا أن يفتش عنها هناك، وأن يسترشد في ذلك بالحقيقة مثلما تبدو له. ولكن ليس لأحد الحق بإلزام الآخرين على التصرّف وفقاً لرؤيته الخاصة للحقيقة . “(٣)
ج – إن قول غاندي بفصل الدين عن الدولة ينسجم مع مبدأ ديني آخر قال به هو مبدأ المساواة في احترام العقائد الدينية على اختلافها. وقد رأى أن هذا المبدأ ضروري لسلام العالم:
“ما لم أتّخذ موقفاً بأن جميع الأديان متساوية، وما لم يكن لدي الاحترام نفسه لجميع الأديان الأخرى كما لديانتي، فلن يكون بمقدوري العيش في غليان الحرب المحيطة بي. (…..) إنني أقرأ وأستمد كل إلهامي من الجيتا. ولكنني أقرأ أيضاً الكتاب المقدس والقرآن إغناءً لديانتي. إنني أدمج فيها جميع ما هو صالح في الديانات الأخرى”(٤)
ولكن هذا المبدأ، مبدأ المساواة بين الأديان، لا يعني أن من يعتنق ديناً معيناً لا يفضّله على سواه من حيث ارتياحه النفسي إليه واقتناعه به بل يعني احترام إختيار الآخرين للأديان الأخرى بالمقدار نفسه. ومن جهةٍ ثانية إن هذا المبدأ لا يعني إقامة حواجز منيعة بوجه الدراسة المقارنة للأديان أو نقدها بموضوعية. وهذا ما أكّده غاندي:
“إن إجلال العقائد الدينية الأخرى لا يجب أن يعمينا عن أخطائها. يجب أن نكون شديدي الوعي لشوائب معتقداتنا الدينية الخاصة أيضاً، ومع ذلك لا يجب التخلّي عنها بسبب ذلك، بل يجب محاولة التغلّب على هذه النقائص. إذا نظرنا الى جميع الأديان بعين المساواة، فإننا لن نتردّد عن مزج كل سمةٍ مقبولة من سمات الأديان الأخرى في ديننا، بل سنعتبر ذلك واجباً علينا. “(٥)
وهذا المبدأ طبّقه غاندي بحذافيره: فمَعَ إجلاله مثلاً للدين المسيحي ولشخصية السيد المسيح، فقد انتقد ورفض معتقدات مسيحية يعتبرها المسيحيون عموماً جوهرية وأساسية في ديانتهم.
٢ – لا يعلّق غاندي أهمية على الأسماء والنعوت والأشكال والشعائر إلا بمقدار ما تعبّر بصدقٍ عن حقيقة المفاهيم والمضامين والجواهر الكامنة وراءها. “فالكلمات، كالكائنات البشرية، تتطوّر من مرحلةٍ إلى أخرى من حيث المضامين التي تحملها. وعلى سبيل المثال، فإنّ ما تحمله أغنى الكلمات – الله – من مضامين ليس واحداً بالنسبة لكلٍّ منا. فهي تختلف تبعاً لتجربة الفرد “(٦) فالأهمية ليست لمجرّد إعلان الفرد بأنه يؤمن بمبدأ أو بدينٍ معين بل الأهمية هي لمفهومه لهذا المبدأ أو الدين. وبالتالي، فالدين بالنسبة للفرد ليس في نهاية المطاف إلا “مفهومه ” الخاص. وهذا ما يفسّر قول غاندي في كتابه “هند سواراج” عام ۱۹۰۹:
” في الواقع، يوجد أديان بعدد الأفراد”. (٧)
وتأكيداً على أهمية الجوهر وليس النعوت والأسماء لم يتردّد غاندي عن أن يقول في خطبةٍ أمام حشد من مبشّري الأرساليّات المسيحية في الهند:
“لا تدغدغوا أنفسكم بالإعتقاد بأن مجرّد تلاوة الآية الشهيرة في إنجيل يوحنا تجعل من الإنسان مسيحياً. إذا كانت قراءتي للكتاب المقدس صحيحة ، فإنني أعرف أناساً لم يسمعوا أبداً باسم يسوع المسيح، وأناساً رفضوا التفسير الرسمي للمسيحية، ولكن لو جاء يسوع إلينا اليوم بالجسد، فإنه قد يقبلهم أكثر مما يقبل العديد منّا”.(٨)
وجاء في ردّه على منتقديه لأنه قرأ من الإنجيل في خطابٍ ألقاه في طلبة جامعيّين:
“إذا كان بإمكاني أن أدعو نفسي مسيحياً أو مسلماً تبعاً لتفسيري الخاص للكتاب المقدس أو للقرآن، فإنني لن أتردد عن أن أدعو نفسي مسيحياً أو مسلماً. إذ عندذاك لا يكون الهندوسي والمسيحي والمسلم إلا تعابير مترادفة. إنني أؤمن أنه لا يوجد في العالم الآخر هندوسيون ولا مسيحيون ولا مسلمون. هناك، يُحَاسب الجميع لا وفق تسمياتهم أو مذاهبهم بل وفق أعمالهم بصرف النظر عن مذاهبهم . “(٩)
في ضوء ذلك، وبما أن الأديان لا تطبّق نفسها بنفسها بل تمرّ في عملية تطبيقها بقنوات فهمها وتفسيرها- وهي من زاوية المؤمن لا تختلف عن عملية اكتشافها، وذلك بصرف النظر عن مصدرها الخارجي الموضوعي – فقد كان غاندي ينظر إلى الأديان على أنها ظاهرة متطورة وليست جامدة.(١٠)
وبالتالي فليس ماضي الأديان هو النموذج المثالي الذي يحتذى بحذافيره ومن دون إعمال الفكر فيه، لأنّ الظروف المحيطة بنشأة الأديان قد لا تكون سمحت لها أن تعطي فيها أفضل ما تنطوي عليه من الإمكانيات. من هنا أهمية فهم جوهر الدين وإعادة تفسيره سعياً إلى فهمه فهماً أفضل. وبالتالي فكمال الدين من زاوية تطوّر مفهوم المرء له يكمن في المستقبل وليس في الماضي، هذا إذا سلّمنا طبعاً أن البشرية أو نخبة منها تتطوّر روحياً تطوراً متصاعداً. بيد أن جلّ ما كان غاندي يتحدث عنه إنما هو واقع تطور فهمنا للدين وضرورة سعينا إلى فهمه فهماً أفضل، لكي تكفّ البشرية عن ارتكاب المجازر والجرائم بحق الأبرياء بإسم الدين.
٣- شدّد غاندي على أهمية دور العقل في الإيمان واعتبر أن غاية الكتابات المقدسة هي إنارة العقل لا شلّه ، (١١) وأنّ “الخطأ لا يمكن القبول به حتى ولو كان بالإمكان تأييده بجميع الكتابات المقدسة في العالم”، وكذلك فلا يجب التخلي عن “ملكة التفكير التي هي منحة إلهية في مواجهة التقاليد القديمة” (١٢). وفي رأي غاندي إنّ الأمور الدينية التي يمكن أن تفهم عن طريق التفكير العقلي يجب إخضاعها لسلطان العقل. أما المسائل الدينية التي يعجز العقل عن الإحاطة بها فيتمّ قبولها عن طريق الإيمان. فالإيمان هنا لا يكون مناقضاً للعقل بل متمّماً له، لأنّ الإيمان المستنير، في رأي غاندي، يشحذ العقل، وعندما يصبح الإيمان إيماناً أعمى فإنه يموت ” (١٣).
وتجدر الإشارة هنا إلى التمايز الدقيق القائم بين معنيّين للإيمان، أي بين الإيمان الذي هو أداة أو وسيلة إدراك “المسائل” التي يعجز العقل بمفهوم ملكة التفكير، عن الإحاطة بها، والإيمان بمعناه الثاني الذي يمكن نعته “بالإدراك الايماني” أو “المعرفة الإيمانية” ، وهو لا يأتي من خارج الإنسان، بل يتم عن طريق “ملكة” أو “خاصة” موجودة في الإنسان، تارةً يسميها غاندي “القلب” كقوله: “الإيمان هو إحدى وظائف القلب، ويجب إنفاذه بواسطة العقل” (١٤). وطوراً يُسميها نوعاً من “الحاسة السادسة”، إذ يقول : “الإيمان هو نوع من حاسّة سادسة تعمل في الحالات التي تقع خارج نطاق العقل ” (١٥). ويصفها أخيراً بأنها الحاسة” أو الحس الروحي حين يقول: تعطي الوردة عطرها بطريقة واحدة وليس بطرق عديدة . الذين لا يتمتعون بحاسة الشم لن يتنسّموا العطر. فأنت لا تستطيع أن تشعر بالعطر بواسطة اللسان أو الأذن أو الجلد. وكذلك فإنك لا تستطيع أن تتلقّى الروحانية إلا بواسطة الحاسة الروحية. من هنا أدركت جميع الأديان ضرورة إيقاظ هذه الحاسة ” (١٦).
إننا نجد التطبيق الأمثل لهذه المنهجية في محاولات غاندي فهم الله.
٤ – يرى غاندي أن هناك أدلّة عقلية عديدة على وجود الله. إلاّ أن الإدلة التي يذكرها لا جديد فيها تقريباً إلا أسلوبه المطبوع بطابعه الشخصي المميز، حيث تتمازج وتتداخل العناصر الثقافية المتعددة وتندمج بتجربته الحياتية الروحية، فإذا بها تنبض بالحياة وإذا بها بعيدةً عن برودة وجفاف الحجج الفلسفية والأكاديمية المجرّدة. ومن الأدلة العقلية التي يسوقها نُشير الى الدليل المتمثّل في القانون الطبيعي والخلقيّ الذي يحكم العالم. هذا القانون هو مظهر من مظاهر الله. بل يمكن القول إنه الله لأن القانون وواضع القانون شيء واحد . (١٧)
ويعتبر غاندي أنّ هناك شهادةً إنسانية لا يمكن نكرانها على وجود الله وهذه الشهادة نجدها في “تجارب خط موصول من الأنبياء والحكماء في جميع البلدان والأقاليم. فرفض هذا الدليل هو إنكار للذات”. (١٨)
ولكنّ غاندي يعترف أنه لا يملك “حجة إقناع من خلال العقل. الإيمان يتجاوز العقل. وجلّ ما أستطيع النصح به هو عدم محاولة المستحيل” (١٩). ولذلك فإن الدليل الذي يعوّل عليه غاندي هو الدليل البرغماتي العملي الذي يقوم على التجربة المباشرة . ” فهناك قوة مجهولة تستعصي على التحديد منتشرة في كل شيء. إنني أشعر بها ولكنني لا أراها . إنها هذه القوة غير المرئية التي تشعر بوجودها ومع ذلك تستعصي على أي دليل، لأنها لا مثيل لها في جميع ما أدركه بواسطة حواسي. فهي تتجاوز الحواس “(٢٠).
ورغم ذلك، إذا كانت هذه القوة موجودة حقاً ، فلا بد من أن يكون هناك سبيل للتعرّف إليها والاقتراب والاستفادة منها. وهنا يؤكد غاندي أن سبيل معرفة الله يكون بإتّباع قوانين الله، تماماً كما أن التوصّل الى الكهرباء لا يتم إلا بإتّباع بعض القوانين الموصلة إليها وإلى إنتاجها. كتب غاندي في أواخر حياته عام ١٩٤٧ في مجلة “هاريجان” هذه الكلمات المعبرة:
“الله ليس شخصاً … الله قوة. إنه جوهر الحياة. إنه إدراك نقي لا يداخله دنس. إنه سرمدي. ومع ذلك، وبكل غرابة، ليس بمقدور الجميع أن يفيدوا منه أو أن يحتموا في ظلّ وجوده الحي الكليّ الانتشار.
الكهرباء قوّة جبارة. ومع ذلك لا يستطيع الجميع الاستفادة منها إذ لا يمكن إنتاجها إلا بإتباع بعض القوانين. إنها قوة مجردة عن الحياة. بإمكان المرء إستخدامها إذا عمل بجدّ كاف حتى يتوصّل إلى معرفة قوانينها.
“إن القوة الحية التي نسميها الله يمكن العثور عليها على نحوٍ شبيه بذلك إذا ما عرفنا واتّبعنا قوانينه المؤدية إلى اكتشافه في ذواتنا.” (٢١)
حياة غاندي بأكملها تدور حول هذا المحور الفرد، حتى ليمكن وصف هذه الحياة بأنها رحلة حج مقدسّة طويلة الى محجّة الحقيقة الإلهية العظمى وتحقيقها في ذاته تمهيداً للاندماج بها في حياته الأخرى. رأى غاندي في الله الحقيقة المطلقة التي لا يعرفها والتي لا يمكن أن يعرفها ما لم يندمج بها ويصبح واحداً معها. ولذلك، ومع أن لله أسماء عديدة مدهشة فإنّه يعبد الله على أنه الحقيقة. بدأ رحلته الروحية هذه بالقول أن الله هو الحقيقة وما لبث أن تحوّل إلى القول بأن الحقيقة هي الله ولا سبيل للوصول إلى الحقيقة المطلقة التي هي الله إلا بإتّباع الحقائق النسبية.
وإذا كانت الحقيقة المطلقة (الله) هي الغاية، فمعنى ذلك أن كُل شيءٍ سواها بما في ذلك الحياة، والجسد، يجب أن تكون وسائل في خدمة الوصول الى الحقيقة. ومعنى ذلك أيضاً ضرورة القضاء على الأنانية وعبادة الذات وكل ما يتصل بها من عبادات ، وتقليص الذات الى درجة الصفر، لأن التواضع المتناهي هو شرطٌ أساسي من شروط السعي الى الحقيقة، ورؤيتها بتجرّد عن أية صبغةٍ أنانية. ولذلك فقد اعتبر غاندي أن حياته هي عبارة عن مجرّد مختبر أجرى فيه تجاربه مع الحقيقة، وهذا هو السبب الذي جعله يطلق على سيرته الذاتية إسم “قصة تجاربي مع الحقيقة”. كتب غاندي في مقدمة هذه السيرة : (٢٢)
” إنّ ثمة تعريفات لا حصر لها الله، لأن مظاهره لا حصر لها. إنّها تغمرني بالدهش والذعر، وإنها لتحيّرني لحظة. ولكنني أعبد الله بوصفه الحقيقة ليس غير. إني لمّا أجده حتى الآن، ولكني أبحث عنه. أنا مستعد للتضحية بأعز الأشياء لدي من أجل هذا البحث. وحتى لو اقتضت التضحية حياتي نفسها فأرجو أن أكون مستعداً لبذلها. ولكن لما كنت قد عجزت حتى الآن عن إدراك هذه الحقيقة المطلقة فيتعيّن علي ان أعتصم بالحقيقة النسبية كما تصوّرتها.
ينبغي أن تكون الحقيقة النسبية، في غضون ذلك، منارتي ودرعي ومجني. وعلى الرغم من أن هذا الطريق عسير وضيق وقاطع مثل حدّ الموسى، فقد كان عندي ولا يزال هو الطريق الأسرع والأيسر . وحتى أخطائي الضخمة قد بدت تافهة في نظري لأني التزمت هذا الطريق التزاماً صارماً. ذلك أن الطريق قد أنقذني من الاستيقاظ على الأسى والحسرة. ولقد مضيت قدماً على هديٍ من ضيائي. وكثيراً ما لمحت خلال تقدمي لمحات باهتة من الحقيقة المطلقة، الله، ويوماً بعد يوم يتعاظم إيماني بأن الله وحده هو حقيقي وكل ما سواه غير حقيقي. فليدرك أولئك الذين يرغبون في ذلك كيف نما هذا الإيمان في نفسي. فليشاركوني تجاربي وليشاركوني إيماني إذا استطاعوا. كذلك تعاظم إيماني بأن كل ما هو ممكن بالنسبة إلي ممكن حتى بالنسبة إلى طفل، وإن عندي أسباباً وجيهة تدعوني إلى هذا القول. فأدوات البحث عن الحقيقة بسيطة بقدر ما هي عسيرة. وقد تكون متعذّرة كل التعذّر على الشخص المتغطرس، وممكنة كل الإمكان للطفل البريء. وإنّ متلمّس الحقيقة يجب أن يكون أكثر اتّضاعاً من التراب. إن العالم يسحق التراب تحت قدميه، ولكن الباحث عن الحقيقة يجب أن يذل نفسه بحيث يكون في مقدور التراب نفسه أن يسحقه. وعندئذٍ، وعندئذٍ فحسب ، يكتب له أن يلمح الحقيقة.”
وفي مكان آخر، من مقدمة هذه السيرة الذاتية الفريدة كتب غاندي أيضاً هذه الكلمات البالغة الأهمية في فهم دوافع تصرفاته كافة:
“إن ما أرغب في إنجازه أو قل إن ما ناضلت وتألمت توقاً إلى إنجازه خلال هذه السنوات الثلاثين – هو تحقيق الذات، أن أرى الله وجهاً لوجه أن أبلغ ال “موكشا” (الخلاص). إني أحيا وأتحرّك، وأحقّق وجودي في السعي من أجل الوصول الى هذا الهدف، وكل ما أقوم به من طريق الكلام أو الكتابة، وكل مجازفاتي في الحقل السياسي موجّهة نحو هذه الغاية نفسها ” (٢٣).
وهكذا يبدو واضحاً أن معرفة الله معرفة تكون درجتها متناسبة مع درجة تحقيق الذات، لأن السعي الى تحقيق الذات إنما هو السعي الى تحقيق الكمال (٢٤) ، وبكلمة أخرى إلى تحقيق الله (٢٥). فالمسألة إذاً ليست مجرّد مسألة إكتساب معارف روحية بل هي مسألة تحقيق الروحانية في الذات (٢٦).
ويؤكد غاندي على أن السبيل الوحيد للوصول الى الحقيقة التي هي الله إنما هو سبيل المحبة:
“إذا كان بالامكان تعريف الله الذي لا يمكن تعريفه، فسأقول إذ ذاك أن الله هو الحقيقة. ويستحيل الوصول إليه، أي إلى الحقيقة ، إلا بواسطة المحبة. ولا يمكن التعبير الكامل عن المحبة ما لم يقلّص المرء نفسه إلى درجة الصفر (٢٧) .
المحبة، في نظر غاندي، هي كالحقيقة ، قانون يحكم العالم، لأنه قانون الحياة، (٢٨) ولذلك فلم يتردد عن الإعلان “بأن الله بالنسبة لي هو حقيقة ومحبة …”. (٢٩) وهنا نجد تطبيقاً لمبدأ آخر من مبادىء غاندي الأساسية وهو مبدأ وحدة الوسيلة والغاية.
وهكذا، فإذا كانت المحبة هي السبيل الوحيد الى الحقيقة التي هي الله، فمعنى ذلك أنها السبيل الوحيد الى تحقيق الذات ، أي الى الكمال. إنه العنصر الذي يوحّد الإنسان بالإنسانية ويشدّه الى الله (٣٠). لا بل ” إن الهدف الأخير لجميع الأديان إنما هو تحقيق هذه الوحدة الجوهرية “(٣١)، وانطلاقاً من هذه الوحدة تصبح خدمة الذات غير منفصلة عن خدمة الانسانية “وتصير هذه الخدمة قوام الحياة بدلاً من الخبز “(٣٢). وقد جسّد غاندي في حياته هذه المبادىء وخاصةً مبدأ المحبة الذي كانت وسيلة اللاعنف السياسية إحدى تطبيقاته، ووقف حياته على نصرة الحق ومقاومة الظلم ومساعدة الفقراء والبؤساء والمقهورين، فعاش معهم كواحد منهم وقاسمهم شظف عيشهم وعمل على رفعهم وتحريرهم. بعمله هذا كان مخلصاً لمبدأ المحبة الشاملة الذي نادى به جميع الأنبياء والحكماء. وقد استطاع غاندي أن يؤكد المرة تلو المرة ، نتيجةً لهذه التجربة الحياتية الملحمية الكبرى مع الحقيقة، إيمانه الراسخ بالله ليس كنظرية أو احتمال بل كوجود حقيقي واقعي:
“أؤمن بالله، لا كنظرية بل كواقع أكثر واقعية من الحياة نفسها “(٣٣).
وكتب في سيرته الذاتية:
“إنني أكثر يقيناً من وجوده (الله) من واقعة جلوسنا معاً في هذه الغرفة. ولذلك ، فبإمكاني أن أشهد أنني ربما أستطيع العيش من دون هواء أو ماء ولكن ليس من دونه. بإمكانك أن تقتلع عيني، ولكن هذا لا يمكنه أن يقتلني. ولكن إقض على إيماني بالله، وإذ ذاك أصبح ميتاً. قد تدعو هذا إيماناً خرافياً، ولكنني أعترف بأنه إيمان خرافي أضمه إلي بعناق “(٣٤) .
*التتمة في العدد الثاني.
المراجع:
١ : Shirer, William, Gandhi -A Memoir, Simon and Shuster, NY, p.243
٢: Gandhi,M, All Men are Brothers, the continuum Publishing Corp., 1980, p.72
٣: المرجع السابق، ص ٦٥.
٤:حوار لغاندي نقله ونشره سكرتيره مهاديف ديساي في “هاريجان ” تاريخ ١٦ كانون الثاني ۱۹۷۳، منشور في كتاب :
“Gandhi on Christianity”, Edited by Robert Ellsberg, Orbis Books, 1991,p65.
٥:مقتطف من كتاب لغاندي بعنوان من هيكل يارفدا، منشور في المرجع السابق ص ٦٢.
٦: الهند الفتاة ، ۱۱ آب ۱۹۲۷ ، منشور في كتاب :All Men are Brothers, p.70
٧: منشور في المرجع السابق ص ٥٤
٨: المنشور في:Andrews, C.F., Mahatma Gandhi’s Ideas, (the Macmillan co., 1930) pp.75-76.
٩ :الهند الفتاة ، ٢ أيلول ۱۹۲٦، منشور في :Gandhi on Christianity.pp.58-59.
١٠ :المرجع المذكور في الرقم ٥ أعلاه
١١: ا”لهند الفتاة” ١٩٠ كانون الثاني ١٩٢١ “The Essential Gandhi, “Edited by Louis Fischer, Vintage Books, 1962.p.135.
١٢ :”All Men Are Brothers “p69
١٣ :”The words of Gandhi, Selected by Richard Attenborough, Newmarket Press, New York (1982),83 Gandhi On Christianity p. 66
١٤: المرجع السابق ص ٨٣ The Words of Gandhi
١٥:Gandhi on Christianity pp. 66-67.
١٦: المرجع نفسه، ص ٥٩.
١٧: رأي غاندي هذا منشور في كتاب “”أندرو” المذكور سابقاً ، ص. ٤٣-٤٥
١٨:المرجع السابق
١٩: المرجع السابق.
٢٠: كلمات غاندي هذه منشورة في كتاب:The Philosophy of Mahatma Gandhi, by Dhirenda Mohan Datta, the University of Wisconsin Press (1953), p.41.
٢١ :”هاريجان” ، ۲۲ حزيران ١٩٤٧، منشور في All Men are Brothers, p.59
٢٢: قصة تجاربي مع الحقيقة سيرة المهاتما غاندي بقلمه، نقلها إلى العربية منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ۱۹۸۱، ص ۸-۹-All Men are Brothers, p.59.
٢٣: المراجع السابق ، ص ٧.
٢٤:”هاريجان” ، ۲۲ حزيران ١٩٣٥ All Men Are Brothers, p71-72
٢٥: “The Prisoner of Hope p83.
٢٦: الهند الفتاة، في :All Men Are Brothers p71-72
٢٧: مقتطفة من مجموعة مؤلفات غاندي الكاملة في الكتاب المذكور سابقاً: Prisoner of Hope p199
٢٨: الهند الفتاة”، ۲۳ تشرين الأول، ١٩٢٤ وفي الكتاب: The Essential Gandhi p190.
٢٩ :الهند الفتاة، ٥ آذار ١٩٢٥ ، في المرجع السابق ص ٢٢٨
٣٠: “الرأي الهندي”، ٢٦ تموز ۱۹۰۳، في المرجع السابق ص ۸۹-۹۰
۳۱: “هاريجان” ، ١٥ كانون الأول ١٩٣٣، في All Men Are Brothers p63.