دراسات وأبحاث

عودة المسيح 

الجزء الثاني:

آياتُ يوم الدينونة:

ممَّا لا شكَّ فيه أن العدالة الكونيَّة قائمة على نظامٍ إلهيٍّ، وأنَّ هذا النِّظام لا يستقيم إلاَّ بإزالة كلّ أسباب الظُّلم والغرور والفساد والشرور. والله الذي خلق كل شيء من العدم، يُدير النِّظام الكونيّ كُلَّه، ويُقيم العدالة المُطلقة في كلِّ شيء بناءً على سيادةٍ مُطلقة وعلمٍ وَسِعَ كُلَّ شيء وقوَّةٍ لا تُقاوم. يقول تعالى في سورة الكهف-49:” وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.” 

وإزالة الشر من النفوس البشرية تتَّخذُ أبعاداً مُتعدِّدة، تتداخلُ فيها المشيئة الإلهيَّة بالمسؤوليَّة البشريَّة، تتعلّق بإرادة الإنسان واختياراته الحُرَّة. وما الخوف والآلام والجوع والمصائبُ والمصاعبُ والنَّقص في الأموال والأنفس والثمرات والآلام إلاَّ تطهيرٌ للنفس ولو لم يُدركه الإنسان إدراكاً كاملاً. هي عمليَّةٌ تُساعد على إزالة الشرِّ من النَّفس الأمَّارة بالسوء، وتتطلَّبُ جهداً بشريَّاً.

لكن إذا تعذَّر ذلك الإرتقاء الرُّوحيّ بعد آلافٍ من التقمُّصات، جوهر الاختبار الوجودي، وازداد الإنسان إنغماساً في الرذيلة، بالرغم من الإرشاد الإلهيّ عبر الرُّسلِ والأنبياءِ والمُصلحين، ومن خلال الكُتُبِ المُقدَّسة، التي هي نورٌ وهدىً، تُرشِدُ النَّفس التائهة، تُنير القلب الصدأ، وتنذِرُ بالويل والثُبُور. فإذا لم يرعوِ الإنسان عن غيِّه وفساده في الأرض بدَّلَ الله الأرضَ بأرضٍ جديدة، وأمات كُلِّ ذي نسمة، لإزالة الشَّرِ من جذوره..  

في يوم الدينونة الأعظم، يُقام العدل المُطلق، ويُقتص للمظلوم من الظالم، ويُحاسَبُ كلٌّ على عمله، وحسابُ الآخرة لا يُشبه حساب الدُّنيا. وفي الكُتُبِ المُقدَّسة عِبَرٌ وآيات لقومٍ لو يعقلون. وما قصَّة طَّوفان نوحٍ عليه السَّلام  مع قومه بعد دعوته وتحمله للأذى والاستهزاء والتكذيب إلاَّ يوم دينونة عظيم. وقصَّة هودٍ عليه السَّلام مع جبابرة قومِ عاد، إذ سخَّر الله عزَّ وجَلَّ عليهم ريحٌ صرصر عاتية فلم تُبقِ ولم تّذُر، فأصبحوا جثثاً هامدة لا تظهر إلا بيوتهم الخاوية! وقصَّة صالح عليه السَّلام وقوم ثمود الذين عقروا النَّاقة تحدِّياً لأمر الله جُلَّ إسمه، فأخذتهم الصَّيحة حتى أصبحت بيوتهم قبورهم، كذلك قصَّة لوطٍ عليه السَّلام وقوم سدوم وعامورة، حيثُ يُصبِحُ الفسادُ ثقافةً سائدة، تُنتَهَكُ فيها قُدسيَّة الحياة، ويُصبحُ الشذوذ أمراً عامَّاً وانتهاك الحُرمات واقعاً، فأمطرتها السماءُ كبريتاً وناراً حتى أصبح عاليها سافلها. وهناك الكثير ممَّا يدلُّ على نهايات شعوبٍ وتدمير أراضٍ تدميراً شاملاً، فالتاريخ حافلٌ بقصصِ حضارات تلاشت واندثرت، وتؤكِّدها الآثار التي تدلُّ على ذلك.

في يوم الدينونة تتجسَّدُ فيه مفاهيم العدل الإلهيّ. ومن قرأ في الكُتُبِ المُقدَّسة بوعي وإدراك وفكَّك الكلمات بأبعادٍ روحيَّة وتمعَّن في سياقها بحكمةٍ وصبرٍ وجد الكثير من الآياتِ التي تُشير بوضوحٍ الى إنذارات الله لخلقه، وتبيَّنَ أنَّ الله يُمهل ولا يُهمل. وما القصصُ التي تُروى إلاَّ دروسٌ وعِبرٌ للآجيال القادمة، والإشارات على الفناء القادم والدَّمار الشامل الآتي كثيرة، نذكُرُ بعضها، لعلَّها تُلقي الضوء في النفوس المُظلمة، وتعودُ الى الطريق القوّيم قبل فوات الآوان.

في العهد القديم تحدَّثَ الله عن خرابُ الأرض ونهاية العالمَ بسبب خطايا البشر، وذلك في سفر إشعياء، الإصحاح ( 24: 1-6 ): “هُوَذَا الرَّبُّ يُخْلِي الأَرْضَ وَيُفْرِغُهَا وَيُقَلِّبُ وَجْهَهَا وَيُبَدِّدُ سُكَّانَهَا… تَبْتَئِسُ الأَرْضُ وَتَضْمَحِلُّ. يَبْأَسُ الْعَالَمُ وَيَضْمَحِلُّ. يَبْأَسُ رُؤَسَاءُ شَعْبِ الأَرْضِ. وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ، نَقَضُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ. لِذلِكَ لَعَنَتِ اللَّعْنَةُ الأَرْضَ، وَأُشْرِبَ الْمُقِيمُونَ فِيهَا. لِذلِكَ احْتَرَقَ سُكَّانُ الأَرْضِ وَتَبَقَّى أُنَاسٌ قَلاَئِلُ.”**

في هذه الآية رؤيةً كونيَّةً مروِّعة عن دينونة الأرض، وارتباطٌ واضحٌ بين الوجود الماديَّ والنواميس الإلهيَّة. فيها إنذارٌ نبويٌّ لعقابٍ إلهيّ على تجاوز حدود الله بنقضِ الشرائع والتلاعب بالتعاليم الإلهيَّة بتحريفها لتبرير الأفعال الشرِّيرة وانهيار الأخلاق وقطع الصِّلة بين المُقدَّس والإنسانيّ. كذلك فيها إشارةٌ واضحة على أنَّ الأرض كائنٌ حيٌّ يُحاسبُ كما الأفراد والمُجتمعات. والدَّمار الشامل يحلُّ بها وبسكَّانها، تحترقُ ويحترقون. وهنا يُطرح السؤال: ما هو الذي يحرقُ الآرض وسُكَّانها ويُغيِّر وجهُها غير القنابل الجحيميَّة.

وفي الآية من سفرِ ملاخي( 4: 1) يقول:” فَهُوَذَا الْيَوْمُ يَأْتِي مُتَّقِدًا كَالتَّنُّورِ، وَكُلُّ الْمُتَكَبِّرِينَ وَكُلُّ فَاعِلِي الشَّرِّ يَكُونُونَ قَشًّا، وَيُحْرِقُهُمُ الْيَوْمُ الآتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلاً وَلاَ فَرْعًا.” وهو ما يدلُّ على حتمية مجيء هذا اليوم مُشتعلاً ومُلتهباً وأنه قريب، فيه تشبيه الأشرار والمُتكبِّرين بالقشِ الذي لا يقاوم النَّار وتأكيدٌ على الفناء التَّام، حتى لا يبقى لهم أثرٌ ولا نسلٌ ولا أبناء ولا أحفاد، صورةٌ مُرعبة ومُعبِّرة عن يوم الدينونة العظيم.

وفي العهد الجديد، رسالة بطرس الثانية، أشار الى النهاية، فكتب:”وَلكِنْ سَيَأْتِي يَوْمُ الرَّبِّ كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا. فَبِمَا أَنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟ مُنْتَظِرِينَ وَمُسْتَعْجِلِينَ حُضُورَ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِسَبَبِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَالْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ. وَلكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ .”

هذه من أوضح الآيات عن “نهاية العالم” الماديّ، فيها رؤية فلسفيَّة كونيّة عن نهاية الزمان وعلاقتها بالأخلاق الإنسانيَّة. حيثُ اليوم المُنتظر يأتي بشكلٍ غيرُ متوقَّع، نهاية عنيفة للكون الحالي والضجيج هو قوَّة الإنفجار، تنحلُّ فيه العناصر وتلتهبُ السماء من شدَّة الحرارة التي تُذيب كُلَّ شيء، تمهيداً لخلقِ سماواتٍ وأرضٍ جديدة يسكن فيها البِرّ.. وهذا دلالة على أنَّ الموت ليس هروباً من العالم، بل ولادة لعالم جديد، يسكنه البِرُّ والتقوى، حيثُ تتحقق العدالة كنسيجٍ كوني، وعلى المؤمنين المُنتظرين المُستعجلين يوم الرَّب أنْ يعملوا الخير ويلتزموا الأخلاق، ليكونوا دُعاة النُّور في عالمٍ يحترق، فالتقوى تجاوزٌ للمادَّة، بإنتظار الأمور المرهونة بأوقاتها.

كذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم:” وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.” ( القصص: 59).

وبناءً عليه، فالله الذي لا إله إلاَّ هو، له العلمُ المُطلق، عليمٌ بالنَّفس البشريَّة وخباياها ونواياها، ما تُخفي الصدور، ما كان وما سيكون، لا يُحاط به جهل، ولا تُشوبه نسيان. ومن عدالته الإلهيَّة التي لا تُظلمَِ مِثقال ذرَّة، وحكمته التي لا تُخطىء، ورحمته التي شملت كُلَّ الكائنات، معروفها ومجهولها، لن يُدمِّرَ الدُّول وما فيها، ويُبيدها عن بِكرة أبيها، حتى يُنذرها، لكي لا يكون حُجَّةٌ لمخلوقٍ على الخالق. وهو الذي رسمَ لنا صورة النهاية الآتية، حرباً نوويَّةً لا تُبقي ولا تَذُرْ. مُعلناً عنها في قوله تعالى:” وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ” (سورة الرحمن: 37). من يتأمَّل في هذه الآية يُلامس جوهر الفناء ونهاية النَّسق الأرضيّ المألوف في مشهدٍ مُبهر لما سيحدث يوم القيامة، وتحديدًا عندما تتغير طبيعة الكون ومظاهره. يُدرك أنَّ إنشقاق السماء ما هو إلاَّ صورة مجازيَّة وتشبيهٌ بلاغيّ لهول الإنفجار، يُعَبِّرُ عنه بصورة بصريَّة مُذهلة على شكلِ وردةً تتوهَّج بألوانِ الطيفِ المُذهلة، وما الدِّهان إلاَّ تشبيهٌ لسيلان الأشياء بسبب قوَّة الحرارة وانصهارها وتداخلها، ما يوحي بعمليَّة تطهيرٍ كونيّ، نتيجة الإنفجارات النَّوويَّة. ومن تبصَّرَ في سورة الرحمن بعقلٍ واعٍ ومُدرك، وقلبٍ مُنفتحٍ مؤمن بالله عزَّ وجَلّ، أدرك تجليَّات عظمة الله ورحمتة الواسعة في خلقه الإنسان وتعليمه البيان، وتدبيره الكون ونُظُمِه، فيها النَّعِيمُ للصالحين والجحيم للأشرار، في مشهدٍ يجمع بين الرهبة والجمال، مُمهدًا لمرحلةٍ جديدةٍ من الوجود البشريّ بعد فناء الدنيا. وأستنْبَط التهديد المُزلزل لمعشرُ الْجِنِّ وَالْإِنسِ على جحودِهم نِعَمُ الله عزَّ وجَلَّ من الصيغة الإستفهاميَّة التوبيخيَّة الإنكاريَّة في الآيات المًتكرِّرة ” فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .”… والله لا يُلقي الكلام جِزافاً.

دلالات المجيء الثاني:

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ موعد عودة سيِّد المجد الثانية أُشير إليها في إنجيل متى، (24: 6-7): يقول:”  وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّ أُمَّةً سَتَقُومُ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةً عَلَى مَمَكَلةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ.” الآية تُمهِّد ليوم الدينونة وتدعو الى اليقظة الروحيَّة قبل فوات الأوآن. ومن تبحَّر فيها يرى إضطرابُ الوجود وإنذارٌ أخير يتجاوز مُجرَّد التنبّؤ بأحداثٍ مُستقبليَّة، لتُشكل رؤيةً كونيةً في طبيعة الوجود الإنسانيّ، وانقسامٌ عميق داخل الوعي البشريّ، تتصادم الرؤى وتتصارع المصالح سواء كان على مستوى الأفراد أو الأمم، وتُصبح الأنانيَّة والظُّلم والعدوان دليلٌ على الإنحراف الأخلاقيّ والرُّوحيّ ومُحرِّكاً رئيسيَّاً للفعل. من هذا المبدأ كانت الحرب العالميَّة الأولى والثانية إضافة الى الكثير من الأزمات والصِراعات والحروب بدايةً للآلام والمجاعات، تتجاوز أبعادها حدود إدراك البشر. أضف إليها كثرة الزلازل والبراكين ونتائجها المُدمِّرة، والأوبئة وتأثيراتها. فيها دعوة لليقظة والعمل وفرصة للإرتقاء بالذَّات قبل فوات الآوان. إنَّها العلامات الكبرى التي تسبقُ نهاية الدهر ومجيء المسيح الثاني.

والباحثُ عن الحقيقة يُدرك أنَّ القرون التي جاءت بعد يسوع المسيح كلها ليست الحروب، والأمراض، والمجاعة التي تحدث عنها المسيح في الفصل الرابع والعشرين من إنجيل متى والفصل السابع عشر من إنجيل لوقا، هي كلّها خاطئة حسبَ قرَّاء ومُفسِّري وعظ المسيح في موعد وطريقة مجيئه الثاني، إذا ما قورِنتْ بأحداث القرن العشرين وعدد ضحاياها، فهي وحدها علامات عن المجيء الثاني للمسيح لأن الخطر على البشرية وصل إلى أقصى حد.

وفي القرآن الكريم، لا يوجد شكٌّ بمجيء المسيح الثاني، وتحذيرٌ للناس بيوم الحساب، إذ كُتِبَ في (سورة الزخرف: 61)، ” وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم.”  فيها حقيقة استدلالية تُظهر ارتباطاً وجوديّاً بين حدثٍ مجيء عيسى عليه السلام وحدث قيام السَّاعة كنقطة تحوُّلٍ وجوديّ، فلا تشُكُّوا أنها واقعة لا محالة، لأنَّ الشَّكَ يُفقدُ الإنسان اتِّصاله بالحقيقة. واتِّباعه فيما يُخبر به تعاليم الله تعالى ووصاياه، هو الصِراط المُستقيم، الطريقٌ الذي يتحرَّرُ فيه العقل من الأوهام والأقصر الى اليقين. ولن أعيد ما ذكرته في حتميَّة عودة المسيح الثانية حول هذه الآية.

لكن ما أودُّ الإشارة إليه، هو عودة المسيح المفاجئة، إذ يُذكَرُ في إنجيل متى 24: 36-39: ” أمّا ذلِكَ اليومُ وتِلكَ السّاعةُ فلا يَعرِفُهُما أحدٌ، لا ملائِكةُ السّماواتِ ولا الاَبنُ، إلاّ الآبُ وحدَهُ. وكما حدَثَ في أيّامِ نوحٍ فكذلِكَ يَحدُثُ عِندَ مجيءِ اَبنِ الإنسانِ. كانَ النّاسُ في الأيّامِ التي سَبَقتِ الطُوفانَ يأكُلونَ ويَشرَبونَ ويَتَزاوَجونَ، إلى يومِ دخَلَ نوحٌ الفُلكَ. وما كانوا ينتَظِرونَ شيئًا، حتّى جاءَ الطُوفانُ فأغرَقهُم كُلّهُم. وهكذا يَحدُثُ عِندَ مَجيءِ اَبنِ الإنسانِ: فيكونُ رَجُلانِ في الحقلِ، فيُؤخذُ أحدُهُما ويُترَكُ الآخَرُ. وتكونُ اَمرأتانِ على حجَرِ الطحنِ، فتُؤخَذُ إحداهُما وتُتركُ الأُخرَى.”

وهذا ما يؤكِّد على أنَّه لا أحدا يعلم الساعة التي يأتي فيها، من خلال وضع التشابه لنوح، حيثُ استمر الكلّ بالأكل والشرب، والرجال والنساء تزوجوا، حتى اليوم الذي ذهب فيه نوح إلى القارب وأتى الطوفان وقتلهم جميعاً. كذلك كان في يوم لوط، استمر الكل بالأكل والشرب، بالشراء والبيع، بالزرع والبناء. الى أن أتى يوم غادر لوط سدوم، هطلت النار والكبريت من السماء وقتلتهم جميعاً. (لوقا 17.26-30). كذلك سيكون يوم أبن الإنسان الذي سيمضي وقتاً على الأرض يوصل فيه رسالته، ممَّا يُحفِّز المؤمنين أن يكونوا مُستعدِّين لتلك السَّاعة، ليس فقط بمراقبة الأحداث الخارجية، بل بـتجديد وعيهم الروحيّ والأخلاقي والعيش وفقًا للتعاليم الإلهية. فمن هذا المُنطلق يجب أن نكون مستيقظين متيقِّظين، وأن لا نكون ممن تأخذهم الغفلة. لأنَّ يوم الرَّب سيأتي كالسارق. في ذلك اليوم ستختفي السماء بضجيج صاخب، ستأكل النار الأشياء، وستحترق الأرض وكلّ من عليها. لا يتأخر الرب في فعل ما وعد به، كما يظن البعض. بل إنه يُمهل، لأنه لا يريد أن يدمّر أحدا، ولكن يريد أن يرجع الجميع عن خطاياهم.

يقول يوحنَّا في سفر الرؤيا: الآية 2:” وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا “. في هذه الآية لا تعني المدينة بناءٌ ماديّ وجهدٌ بشريّ، بل هِبَةٌ إلهيَّة، تجسيدٌ للحقيقة النازلة من السماء من عالم المُثُل الإلهيّ الى الوجود، رسالةٌ روحيَّة في أبهى صورها تنتظرُ صاحبها المسيح الآتي، يعمل على نشرها حتى تتشبع الكينونة الإنسانية بالوجود الإلهي وتتغيِّر طبيعة الإنسان وتتجاوز الوجود الماديّ من مُعاناةٍ وموت، حزنٍ وخوف التي هي جزءٌ لا يتجزأ من التجربة البشريَّة في عالم السقوط، الى حيثُ تُدرك الذَّات حقيقة وجودها وخلودها وبداية السَّلام.

كما يقول في نفس الرؤيا، الآية 6:” ثُمَّ قَالَ لِي: “قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. وكلمة ” تمَّ ” هي الكلمة الفصل في إكتمال الدورة الكونيَّة ونهايتها. وهي كلماتٌ حقيقية ويمكن الوثوق بها. بل هي حقائق وجودية قادمة، تؤكّد حتمية هذه النبوءات.

كذلك يجب الأخذ بعين الإعتبار بأن المجيء الثاني سيكون في مدينة جديدة وإسمٍ جديد، حيثُ يقول في رؤيا يوحنا،  (3: 11-12) :” “سآتي قريباً. حافظوا على ما لديكم، حتى لا يسرق أحد منكم جائزة نصركم. سأجعل المنتصر عمودا في معبد الله، ولن يغادره مُطلقاً. سأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي، القدس الجديدة، التي ستنزل من السماء من ربي. سأكتب عليها أيضاً اسمي الجديد”. وبعيداً عن التفسير التقليدي، نرى أنَّ الولادة الثانيَّة أيضاً ستكون في القدس، مدينة الأنبياء، ولكن سيكون بإسمٍ جديد، لكي تتحقَّقُ النبوءة.

والقدس الجديدة لديها بعدين: الأول ماديٌّ وظلٌّ خفيف من القدس الروحيَّة، البعد الثاني الذي يمثل عروس المسيح العائد، والتي هي رسالته السماويَّة. ستظهر الرسالة (العروس) في لبنان لتحقِّق النبوءات المكتوبة في سفر الرؤيا: “وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ: «تَعَالَ!» وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ!» وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا.” (الإصحاح 22: 17).

هذه دعوة شاملة تُلخص جوهر الرسالة الجديدة، دعوةٌ كونيةً للوعي البشري للعودة إلى مصدره، مفتوحةٌ للجميع للإيمان بها وبالمسيح العائد للخلاص والحياة الأبديَّة. لا تُقصي أحداً ممن يطلب الحياة والخلاص والوصال بالكمال المُطلق، تحمل في طيَّاتها حريَّة الإرادة البشريَّة، ومفهوم النعمة لكل نفس توَّاقة. وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ!»، فمسؤوليَّة الوعي المُستنير إلقاء الضوء على تعاليمها والتبشير بها حتى تنتشر في أصقاع الأرض.

يقول الرَّبُّ في إشعياء (29: 17-18) ” أَلَيْسَ بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ إِلَى كَرْمَلٍ، وَيُحْسَبُ الْكَرْمَلُ وَعْراً؟، وَيَسْمَعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَأَعْيُنُ الْعُمْيِ تَنْظُرُ مِنَ الظَّلاَمِ وَالْقَتَامِ.”

هذه الآية عبارة عن عمليَّة تتجاوز الزمان والمكان في التحوُّل الشامل للوعي البشريّ، بالعودة الى فطرته وتُجدِّد علاقته بالخالق، بعد فترة الجهل والإنحراف الرُّوحيّ. تُعيدُ الإنفتاح على الحقائق الروحيَّة وطبيعة الحياة والوجود. تُشير الى تغييرات عميقة في فهم الواقع والمفاهيم المتوارثة. ولبنان صاحبُ البأس والمجد المادّي حسبما وردَ في سياق النبوءات عن الدينونة يحملُ في طيَّاته نوعاً من الكبرياء والجفاف الرُّوحيّ، يتحوَّل إلى بستان من المعرفة السماويَّة، ذات قوةٍ وسموٍّ يتجاوز الفهم المألوف. وسيُعتبر البستان على أنه غابة! (تعني بالوعر الذي يَصْعُبُ السير في تضاريسه)، تحمل دلالةً على صلابة النفوس المُتعجرفة على تقبُّل الحقائق الروحيَّة، وانقلابٍ في سلم القيم والمعايير البشرية التي يصعُبُ إختراقها. حيثُ تتجلّى المُعجزات المُذهلة والظاهرات الروحيَّة على يديِّ النَّبي الحبيب، عريس الرسالة الإلهيَّة بقوَّة الوحي الإلهيّ، مصدر الحقيقة المُعلنة والمعرفة الروحيَّة، ينفتح الوعي البشريّ على مستوياتٍ جديدة من الفهم والإدراك، يتجاوز الجهل الوجوديّ والرُّوحيّ، حتى يسمعُ الصمُّ المُغلقة حواسهم أمام الحقائق الدَّامغة رسائل الوجود العميقة، صوت الحكمة ونداء الضَّمير. وسيُرفع عن أعين العُميانِ المُفتَقِرة الى البصيرة الروحيَّة سِتار الوهم، وتستيقظُ من غفلتها، وسترى العالم والحقيقة بعينٍ جديدة رغمَ الظلام الحالك. فيها تحقيق التَّوق إلى إعادة بناء العلاقة المقطوعة بين الرُّوح ومصدرها، مما يُؤدي إلى سلامٍ داخليٍّ وكونيٍّ شاملٍ.

في الآية الكريمة “هلمّي معي يا أختي العروس، هلمّي معي من لبنان”!.” (نشيد الأنشاد 4: 8)

 تحمل في طياتها دلالات فلسفية وروحيَّة عميقة تتجاوز الحبَّ البشريّ، لتُشير إلى دعوةٍ وجوديةٍ للاتحاد في المصير والارتقاء نحو حالةٍ من الكمال والوصال مع المطلق. تُجسدُ توقَ الوعيِ الوجوديِّ نحو الجمالِ المتسامي، والنقاءِ الأصيلِ، والاتحادِ بمصدرِ الإلهامِ. تُشير إلى الرُّوح النقيَّة التي بلغت ذروة جمالها المُتسامي وكمالها المُقدَّس،. إنها تُصورُ رحلةَ الذاتِ نحو النورِ، وتُبرزُ قوةَ الانجذابِ الروحيِّ الذي يتجاوزُ المادياتِ. فيها نداء الرُّوح نحو الحقِّ والخير والجمال. والحبيب إذ يدعو محبوبته “من لبنان”، فهو لا يُشير إلى مكانٍ جغرافيٍّ يتميَّزُ بجماله الطبيعي الخلاب، وأشجار الأرز الشاهقة التي تُشير إلى العلو والمجد والعظمة. بل إلى مكانةٍ وجوديةٍ تتميزُ بالسموِّ والنقاء، يمثِّل تلك الجوانب المُشرقة البهيَّة. يدعو الرسالة الروحيَّة الجديدة الفائقة الجمال، التي بلغت ذروة طهارتها وجاهزيَّتها للوصال مع سيِّد المجد الخالد، حيثُ يجتمعُ أهلُ الفكر والعلم والأدب، أهل العقل والوعي والإنفتاح.

وما يؤكِّدُ على أنَّ أختي العروس هي الرسالة الروحيَّة الجديدة قول النَّبي سليمان الحكيم في سفر نشيد الأنشاد 4: 12:” “أختي العروس عين مقفلة، جنَّة مُغلقة، ينبوع مختوم “. هي الذَّاتُ العُظمى والسرُّ الوجوديّ المحفوظ والمحجوب، والقيمة الجوهريَّة للجمال الحقيقيّ المُقدَّس، يجمع بين المحبَّة والطَّهارة، فيها ما لا يُمكن النَّفاذُ إليه إلاَّ بإستحقاقٍ روحيّ.

في العهد القديم، الإصحاح 9: 6 من سفر أشعياء كُتِب: ” ولد طفل لنا! أعطي ابن لنا! وسيكون حاكمنا. سيُسمَّى، “الناصح الرائع”، أو الناصح المذهل- وهي نصٌ نبويٌّ بالغ الأهمية في اللاهوت المسيحيّ، حيث يُفسر على أنه نبوءة عن ميلاد المسيح الثاني. وبمعزلٍ عن التفسير اللاهوتي، فمن يُحلِّل هذه الكلمات بتجرُّدٍ يرى أنَّها مُرادفة لإسم الدكتور داهش اليوم. اسم داهش الذي يعني “المُدهش” أسماه إياه مرسوم روحي. ويمتلك القدرة على كشف الحقائق المخفيَّة، وتوجيه الوعي البشريّ نحو ما هو خيرٌ وصادقٌ وجميلٌ. كما أنَّ الولادة هي إعلانٌ عن بزوغ فجرٍ جديد، وفتحٌ لآفاقٍ لم تكن موجودة، تُبرِزُ الفكر والمفاهيم والقِيَم العليا، حتى لا تبقى مجرَّد كلماتٍ وشِعارات بل يمكنها أن تتجسَّدُ في كينونةٍ حيةٍ، لتُصبح نموذجاً يُحتذى به ومصدراً للإلهام.

وكلمة “وسيكون حاكمنا ” تتجاوز الحكم السياسيّ الى سُلطةٍ وجوديَّة وأخلاقيَّة شاملة، يجمع بين القوة والحكمة والعدل. هذا الحاكم ليس مجرد مُسَيِرٍ لشؤون الدنيا، بل هو مُنظمٌ للوجود البشريّ برمَّته، يُعيد له التوازن والقيم.

أسباب عودة السيِّد المسيح:

من ينظر بعين العقل ويتأمَّل في طبيعة البشر ويغوص في طبقاتٍ أعمق من الواقع الظاهر، يرفض السطحيَّة ويسعى لإدراك الحقيقة كاملة بغضِّ النَّظرِ عن أهوالها. يعرف أنَّ ما يختلج في النَّفس البشريَّة من شرٍّ مُتأصِّل مُتراكم يُشير الى فشلٍ ذريع للعقلانيَّة الأخلاقيَّة، يتجاوز الخطيئة الدينية ليشمل الانفصال عن مسارٍ مثالي. وتحوَّل العقل من أداةٍ للتحرُّر الى أداة للسيطرة يفتح الباب مُشرَّعاً لقِيَمٍ مُتوحِّشة، يختزلُ الحياة ويُفكِّك الحقيقة برموزٍ وشِعارات وحياة عمياء، يتمرَّدُ على الله والأنبياء بعمليَّة تراكميَّة من القرارات تتنكَّر لجوهر الإنسان وإنسانيَّته اتِّجاه الآخرين، فالحريَّة والحضارة قد شوَّهت مفاهيم الحقِّ والخير والجمال.

والإبتعاد عن القِيَم الجوهريَّة، متاهةٌ يفقدُ فيها الإنسان القدرة على رؤية التبعات الحقيقية لأفعاله، حيثُ يُبرِّر لنفسه الأخطاء، ممَّا يُدخله في دوامة الرذيلة غافلاً أو مُتعمِّداً، حتى يُصبح الإنحراف نتيجة حتميَّة. ممَّا يُضعِفُ قوَّة الإرادة لمقاومة الإغراءات والشهوات، وتتمكَّنُ منه الإغواءات الخفيَّة تحت ضغوط الحياة ومشاكلها، فينغمس في سلوكياتٍ هدامةٍ أو عبثيةٍ، تُسيطر عليه الأنانيَّة والرغبة في تحقيق المصالح الشخصيَّة على حساب القِيَم العليا، ما يُفقده الإحساس بالغاية والمعنى الأسمى لوجوده، ويزول الانسجام بين فكره وقوله وفعله. وهكذا يُصبح الكائن البشريّ تائهاً في عالمٍ مُتلاطمٍ من المصالح، تُفضي الى الضياع والإكتئاب واليأس وتفكيك الذَّات. وتُصبح القوَّة هي الحَكَم الوحيد، بها ينتشرُ الظُّلم والفساد، وتُصبح العدالة أمراً صعباً، ممَّا يؤدّي بالتالي الى إنهيار المُجتمعات.

من أنار الله بصيرته، يرى العبثيَّة الوجوديَّة في غياب الإرادة اللآعقلانيَّة واللاواعية تُلقي بظلالها على النفوس في عصرٍ تتزايد فيه القدرة العلميَّة وتتجاوز حدود التصوُّر البشريّ. فالعلم الذي هو محرّك التقدُّم البشريّ الأساسيّ، والوسيلة الأكثر فعاليَّة لتحقيق الرفاهية والارتقاء بحياة الإنسان، أستُغلَّت من قبل الدُّول القويَّة والغنيَّة والمُتقدِّمة علميَّاً لصناعة الأسلحة التدميريَّة الفتَّاكة، حتى أصبحت القنابل النوويَّة كألعابِ أطفال. يرى الخوف من المُستقبل الآتي يهزُّ أُسس الوعي البشريّ بين الصمت والانفجار ويكشف عن هشاشة الوجود أمام قوة الجنون البشريّ، حيث يصبح “العدم” احتمالاً ملموساً.

ومن رغبة الإنسان الكاملة في السيطرة المُطلقة، تتحوّل القوَّة الى فائض وهم والثقة المُفرِطة الى غرور، ممَّا يدفع صُنَّاع القرار الى محاولاتٍ غير واقعيَّة للتحكُّم. وبعيداً عمَّا يدور في كواليس السياسة حيثُ تكمن الدوافع الخفيَّة والمصالح الفرديَّة أو حتى الجماعيَّة، تسمع التصريحات العلنيَّة عبر وسائل الإعلام المرئيَّة والمسموعة وعلى منصَّات التواصل الإجتماعي عن استخدام الأسلحة الفتاكة التدميريَّة الهائلة التي تُهدِّد وجود البشريَّة بعيداً عن نتائجها، ما يُشير الى إنحرافٍ عميق في إستخدام العقل نفسه. وهذا دليلٌ على فشل المشروع الإنسانيّ، ممَّا يُكرِّسُ شريعة الغاب.

ومن ثنائيَّة الخوف والقوَّة ، ومنطق البحث عن الأمان تهرع الدُّول الى السباق في التسلُّح، وتدفع بعلمها وعُلماءها الى صناعة أسلحة الفناء الشامل لإمتلاكِ أدوات التدمير كضمانة للوجود. وهذا ما يدلُّ بوضوح كُلِّي عن أنَّ التقدُّم العلميّ يتحوَّلُ الى عارٍ وجوديّ يُفقده الإحساس بخطورة الموقف عندما يوجَّه نحو التدمير، ويُسيء الى جوهر الإنسانيَّة ما لم يستندُ الى ضمانة ومسؤوليَّة أخلاقيَّة.. وهكذا يُصبح التفوُّق البشريُّ يعكسُ الخوف بدلاً من الثقة. وتستحيلُ ثقافة الموت ضمانة للحياة.

يقول الدكتور داهش في كتابه المُلهم مُذكَّرات دينار:” أن الحرب العالمية الثالثة ستحدث ما لم توقف القوى العظمى وحشيَّتُها وتترك تعزيز مصالحها الخاصة على حساب الشعوب الأضعف وتستبدلها بالتسامح، الحب والتآخي.”

وممَّا لا شكَّ فيه إنَّ الحروب النوويَّة إذا ما اندلعت ستؤدِّي الى فناء الجنس البشريّ ما لم تتبدَّلُ القِيَم الماديَّة الحاليَّة بقِيَمٍ روحيَّة. وهذا ما لا يستطيع غير المسيح أنْ يُحقِّقه.

والكُتُبُ المُقدَّسة تتحدَّثُ عن الإنذار الأخير قبل حلول غضب الرَّب أو دينونته، كعلامةٍ كونيَّة تُنذر بقربِ الأجل، يتجلّى رُسُلاً وأنبياءً مُبشِّرين ومُنذرين، لئلا يكون للبشر حجة وللأممُ عُذراً قبل العذاب،. يقول تعالى في سورة النساء،165 من القرآن الكريم:” رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.”

وفي الكتاب المُقدَّس، تُمثِّلُ آيات الإنذار الأخير دعوةً لليقظة الوجودية، ونداءً للتوبة الشاملة، وتحذيرًا من التداعيات الكونيَّة للإنحراف الأخلاقي. هذه الإنذارات ليست عقابًا مُفاجئًا، بل هي مراحلٌ تُبين أن الوعي البشري، في حريتَّه، قادرٌ على الانحراف إلى أقصى الحدود، لكنه سيُقابل في النهاية بالعدالة الإلهيَّة التي تُعيد النظام إلى الكون.

يقول في متى 24: 14: “وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى.” هذا الإنذار الأخير يُشير الى إكتمال الحُجَّة الإلهيَّة على البشريَّة ونهاية الأيَّام التي تسبق الدينونة.

أيضاً، يقول في نفس الإصحاح: “فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ. واَعلَموا أنّ رَبّ البَيتِ لو عَرَفَ في أيّةِ ساعَةٍ مِنَ اللّيلِ يَجيءُ اللّصّ، لسَهِرَ وما تَركَهُ يَنقُبُ بَيتَهُ. فكونوا أنتُم أيضًا على اَستِعدادٍ، لأنّ اَبنَ الإنسانِ يَجيءُ في ساعةٍ لا تَنتَظِرونَها.” (متى 24: 42-44) . تتجاوز هذه الآية التحذير المباشر، لتُركِّز على أهمية حالة اليقظة الروحيَّة، الوعي المُستمرّ، والاستعداد الدائم، والإلتزام الإخلاقيّ في ظلِّ حتميَّة المجهول، وألا يسقط الإنسان في غفلة الجهل أو اللامبالاة، ولا يُمكن أن يُلقي اللوم على عدم معرفته بالوقت، بل عليه أن يتحمَّل مسؤوليَّة خياراته وأفعاله. فالموت والحياة لا يُعرف وقت حدوثِها، كذلك مجيء المسيح الثاني أو إندلاع الحرب النوويَّة.

وختاماً، بعد كلّ ما ورد في هذه الدراسة من أقوال روحيَّة ودلائل على أن “يوم الحساب” سوف تجلبه الحرب النوويَّة، يبقى الباب مفتوحاً على تغيير الإستحقاقات وتغيير مسارات التاريخ الآتي، رهنٌ بحريَّة الإنسان وإرادته. وتقبُّل الخلاص عبر المسيح الجديد، داهش.

بقلم حسين يونس

 

error: Content is protected !!