دراسات وأبحاث

“سرّ سلة القصب”

 

قراءة سليمان جمعة في “سر سلة القصب” قصة للدكتور داهش من قصص غريبة واساطير عجيبة ج. 1

النص:

سر سلة القصب

في سكينة الليل كانت سلة قصب قابعة على سطح خزانة عجوز، بجوار زهرية من الخزف ، فسمعتهما الخزانة يتحاوران حوارا حميما غريبا!

ما بهن يتهامسن في هدأة الليل؟أتختلج ترى، نسمة الحياة في سلة القصب،وزهرية الخزف، وخزانة السنديان؟!

كيف يتفاهمن، يا ترى؟!

الروح يهب حيث يشاء .

الروح يمكنه ان يسكنها.

ايسكن هيكلاً من اللحم والعظم ، ويستحيل عليه السكنى في القصب او السنديان او الخزف ؟!

لا.

قالت سلة القصب:

كم من الذكريات بعثت فيّ عن الزمن السحيق!

موسى النبي عرفته قبل مولده ؛فروحه النقية ،قبل ان يتجسد في هذا العالم ، كلنت تسبح الله في الملأ الاعلى .أما انا فقد كنت ملاكاً يمجد الخالق بجوار النبي العظيم .

ثم حانت الساعة التي اوجبت عليّ أن أسانده في رسالته على الارض.

سجدت للكائن المبدع ، باري العوالم، والغبطة تملؤني ، وباشرت تنفيذ مهمتي ؛ وهي أن تتغلغل روحي في طاىفة من القصب كانت تنمو على شاطىء النيل .وسرعان ما قمت بواجبي.

واذا أم موسى تلهم ان تاتي وتقطع ذلك القص. ثم تنكب على حبكه سلة،بنشاط عجيب.

وانجبزت حبك السلة التي كانت سلاح الانقاذ الوحيد الذي امكنها ان تشهره بوجه امر فرعون:” أطفال العبرانيين الذكور جميعهم يجب ان يهلكوا

على ارض مصر”.

وانهمر من عيني الام دمع مدرار روى المهد المنقذ الذي سيحمل موسى .

وتابعت سلة القصب قائلة:

_ وضع الطفلُ في زورق القصب البدائي ، ودُفع فوق أمواج النهر ، وكانت روحي تحرسه، نافحة في اللحظة المناسبة .النسائم اللطيفة حوله ،وحادية زورق الامل نحو الأميرة المصرية.

وأثارت روحي الرقة والشفقة في قلب الاميرة ،وأوحت لها ان تنقذ الطفل وتربيه بنفسها في قصرها. كان رائع الحسن ،يخلب جماله لبها.

لا ،لن يموت،انها ستنقذه وتتبناه.

ويروي التاريخ المقدس وقائع القصة :

كانت مريم اخت موسى تراقب تلك الناحية ، وستار من الاشجار يحجبها عن الرؤية .ولكن، لا شيء كان يفوت نظرها . واذا بموكب ملكي يتقدم الى ضفة النهر…

أما هناك ،في منزل الصبي، فقد كانت الام تنوح ، ناقمة على الاقدار التي فجعت شعبها ..كانت ترتعش خوفا وتنتظر…

وبينما كانت الوصيفات والجواري منهمكات حول ابنة فرعون ، مهتمات بأمر اغتسالها في النهر ، لمحت الأميرة السلة وهي ترقص على الامواج تحت اشعة الشمس.وتلبية لأمرها اسرعت الإماء نحو مهد القصب، وحملنه اليها . لقد كان اكتشافا مثيرا : طفل وسيم يبتسم للجميع، فيتناقلنه ويداعبنه.

وقررت ابنة فرعون أن تأخذه. لكن، عليها ان تؤمن غذاءه وتربيته. انها في حيرة !

ترى ما العمل؟

واذا بستار الاشجار الذي يحجب مريم وتحرك تحركا عجيباً، فتظهر من ورائه صبية خائفة،حيية،تحاول الهرب من وجه ذلك الجمع.

تبعتها الجواري فأدركنها،وقدنها الى الاميرة ،فاستجوبتها،

وأبدت الصبية أنها لا تعرف شيئا عن امر الطفل والمهد. فأُوعِز إليها ان تسعى في البحث عن مرضع بين العبرانيات.

ولم تجد شقيقة موسى فرصة مؤاتية افضل لنأتي بأمها ،كمربية للطفل..الى الاميرة .

واعجبت ابنة فرعون بها ،فأسندت اليها عدة نصائح ووعدتها بأجر كبير لقاء تعهدها للصبي.

وتعبت سلة القصب من الكلام . لكن زهرية الخزف ما كان النعاس ليراودها.

_ارجوك، أكملي 

قالت لها .

فتابعت السلة حديثها قائلة :

الزمن الهارب يمضي سريعا ، لكن مصر والنيل يكادان يلامسان الازل .

اما شجيرات القصب فهي ما تزال حية ، وضفاف النيل ما برحت آهلة بجماعات كثيرة منها؛

فيها ينفح سيال من روحي مرجعّاً أصداء ذكرياته القديمة.

لم تنس السلة القابعة على سطح الخزانة الماضي البعيد؛لكنها سكتت بغتة وحبست انفاسها.

امر غريب حدث، هذا المساء :

حضور رجل غير عادي أثار في روحها ذكريات غير منتظرة !لقد شعرت بهزة ..برعشة داخلية!

خاطرة غريبة عبرت في رأسها ..وكانت على وشك ان تبوح بها :

_ أيكون موسى قد عاد الى الارض؟!

ما رأي زهرية الخزف وخزانة السنديان؟

في هذه اللحظة حدثت في الغرفة حركة مفاجئة ..صعد احد سلما صغيرة بسرعة وقوة وبخفة ورشاقة امتدت يده الى سطح الخزانة ..وأمسكت سلة القصب واوقفتها عن الكلام.

صمتت هي والسر باقٍ!

لكن برقا ومض على بياض الجدران ..متعرجا..

وهبط الليل.

بيروت ،٣٠_١٢_١٩٤٤

الدكتور داهش

من قصص غريبة واساطير عجيبة ج.   1

#القراءة

  رؤية الى العالم جديدة 

..

نسمة الحياة دبت في سلة القصب وخزانة السنديان وزهرية الخزف ..فها هن يتحاورن .. ولكن بأي لغة والراوي يصغي اليهن ويتساءل 

 ويجيب ..كما الروح تسكن هيكل البشر فهي قادرة ان تسكن هيكل القصب و زهرية الخزف وخزانة السنديان ..فليس ذلك بغريب. فالروح تهب حيث تشاء ..

 الحوار بنية حوارية مختلفة 

البشري يصغي لحديث من يظنهم جمادا ولهم هياكل مثله .. مالغتهم ؟

والبنية الاخرى ان الروح التي تغلغلت في حقلة القصب كانت ملاكا في الملأ الاعلى تسبح الله بجوار النبي العظيم .

فنزلت لتساعده بعد ان تجسدت روحه في عالم الارض .. تلك رؤية اخرى الى علاقة السماء بالارض وان له من يساعده من الارواح ..  

 اذن ، ألم تتغيير رؤيتنا الى الموجودات وااى علاقة السماء بها وبالانبياء ؟   

النبي بنية اخرى .

يبعث برسالة لاقامة منظومة معرفية تساعد البشر في نبذ الظلم وقهره واقامة العدل والسعي الى السلام الروحي … فهل تتركه السماء وحيدا ؟ لا ..

ولكن النص يخبرنا ان فرعون امر بان يهلك كل اطفال العبرانيين خوفا على سلطته ..تناص مع نص مقدس .. ولكن النص كشف حركة هذا التناص وكيف كان …. 

وكيف الهمت ام موسى ان تحيك من القصب التي تغلغل فيه روح ملاك وهي لا تعرف ولكن السماء تعرف وفرعون لا يعرف .. هو اي فرعون له حركته كملك وسلطة والسماء لها حركتها تحمي بها رسالتها ..ولكن هناك كثير من الاطفال قد ماتوا وصار نحيب وبكاء .. لا نحكم على ذلك فاننا نجهل حركته .. اذن حاصر الخوف فرعون فتحرك لانقاذ نفسه بقتل الاطفال ..وتحركت السماء لتنقذ الطفل موسى من هذا الحصار وذلك بنافذة روحية رسمتها السماء وينفذها فريق مختلف من الموجودات بشر وكائنات نباتية ومائية وهوائية .

كلها تستجيب للايحاء للروح .. هذه الرؤية للحركة في الوجود جديدة ..تجعلك تشعر ان كل شيء يراقبك ويتحرك نحوك ويصغي لداخلك ..ويدعوك ان تقرأه بروحك بحدسك..

 اذن ..البنى تتحرك لهدف هو انقاذ او فك حصار الموت عن الطفل وحركة اخرى مضادة تتتحرك لفك حصار الخوف عن فرعون ..

الام تلهم ان تحيك السلة وان تضعها في النهر الروح تحرسها ترسل النسائم عليها تدفعها الامواج باتجاه موكب ملكي ..كلها حركات مرسومة بدقة ومخفية .. اخت موسى تراقب الموكب والسلة .

تسترها الاشجار ..الرح تحرك الاشجار لتكشف الاخت ..ليراها الموكب ياتي بها وصيفات الاميرة ابنة الفرعون فتدلهم على مرضع وذلك بعد ان الهمت ااروح نفسها الاميرة بذلك ..اذن انقذ الطفل ليربى في قصر فرعون وجهل فرعون الامر .. حركة الروح لم تهدأ تحرك البنى المشكلة للنص باتجاه فك الحصار اي انقاذ الطفل .. 

هدأت سلة القصب عن الحكي..ولكن امر غريب حدث بعيدا عن شريط الذكريات التي بعثت فيها الآن في هذا الزمن ..وهي قابعة فوق خزانة السنديان بقرب زهرية الخزف ..شعرت بروح تعرفها ..فتساءلت : “ايكون موسى قد عاد الى الارض”..

فلمسها احد فاسكتها واومض ضوء على الجدران ..وهبط الليل .

 هنا نحن امام رؤية اخرى تربط البنى المعرفية عبر الزمن وهي ان الذي كان يصغي والضوء الذي ومض هم انفسهم ابطال الانقاذ ..

 فوحدة موسى الروحية مع الراوي او الكاتب الضمني 

وهو السيال نفسه …الذي تغلغل بالقصب وومض على الجدران وهو الذي الهم ام موسى وادخل الرأفة الى قلب الاميرة.

 من هنا يمنحنا النص رؤية الى وحدة الانبياء ودور السيالات التي تنزل لمؤازرتهم في تأدية رسالتهم ..ولا يعرف بهم الا هو .. “وايدناه بجنود لم تروها “..

 النص يغنينا بان يضيف الى ما نعرف من ذكر قديم ضوءا نقرأ به ..

 فمثلا عرفت وانا المؤمن بالتقمص ان سيال مريم اخت موسى

هو نفسه سيال مريم ام عيسى بقول القرآن يا “اخت هارون ..فدمج وظيفة هارون” الكاهنوتية والاخوة ..

فالسيال عبر الزمان الى ان وصل الى رسالة اخرى فاصطفاه الله لدور جديد . وهكذا يتغلغل فينا النص لنرى به الى الوجود بصورة مختلفة ..آمنا بذلك ام لم نؤمن ..ولكنه ادى الوظيفة الجمالية ..من الادب الرسالي .

كتاب مُذكّرات دينار للدّكتور داهش

مطالعة وتعليق: حسين أحمد سليم الحاج يونس

كتاب ( مُذكّرات دينار)، للدّكتور داهش بك، الصّادر بطبعته الأولى، سنة 1946 م. في بيروت… هو كتاب روائي، بطله دينار ذهبيّ، طوّاف في نواحي مجتمعات الأقطار الأرضيّة، مُتداولٌ بين الأيادي، في رحاب المُجتمعات البشريّة، مُتنقّلٌ من مكان إلى مكان، يُوثّق طرائف العلاقات النّفاقيّة، وخفايا المُعاملات البِغائيّة، السّائدة بين النّاس في مجتمعات الكُفر والعُهر والإلحاد…

هو كتاب داهشيّ العنوان والفكرة والأسلوب، صِيغ بأسلوب نقديّ ساخر، لاذع جريء جارح، لمُجتمع الكذب والدّجل والنّفاق والبغاء، الذي يدوس بأقدامه على المباديء السّامية، والعقائد المُقدّسة، مُتنصّلا من الأخلاق الكريمة والعظيمة… 

سِفرٌ أدبيّ تراثيّ، عجيب غريب، جليل المضمون، مُميّز طريف، فريد من نوعه، نفيس المُحتوى، ثريّ بالحِكم البالغة الأثر، شديد الوقع على قارئه… 

أبرز الدّكتور داهش بك فيه إبداعه، في وصف الأمراض والمُوبقات الإجتماعيّة، ومآسي الحياة القاسية، ومدى وقعها المؤلم في النّفوس، المُبطّنة بجنون الإضطّرابات النّفسيّة، تفتك بهم جراثيم النّقائص الخطيرة، المُجدّفة إندفاعًا في خُضمّ الرّذائل… مُلِمّا بعمق في الشّؤون الحياتيّة البشريّة، غائصًا في ثنايا خفاياها، وأعماق أعماقها، دارسًا لها بدقّة، مُحلّلاً لذرّاتها ومطاويها، بخبرة ومهارة…    

هذا الكتاب الحيويّ، تتجلّى في سطور مواضيعه الرّوائيّة، خلاصة رؤى الدّكتور داهش بك، التي تعكس في عناصر صورها، حقائق المُجتمعات البشريّة، وممارستها الأخلاق الذّميمة والخبيثة، وتعاملها بالمفاسد السّياسيّة، والتّجدبف الشّيطاني، إهتمامًا مُنقطع النّظير في اللذائذ والشّهوات والمادّيات الفانية…

دوّن الدّكتور داهش بك آراءه بصدق وإخلاص، دون شودرتها بالأستار، مُقدّمًا حُزم صوره الجشعة البشعة، الكتابيّة، في (مُذكّرات دينار )، مُتوخّيًا في مصداقيّة نواياه، تقويم الإعوجاجات الأخلاقيّة، المُستشرية في نفوس غالبيّة أنواع البشر…

error: Content is protected !!