دراسات وأبحاث

تأمّلات في كلمات الدكتور داهِش عن الكتب والمكتبات

 

 

١- (أحِبُّ الكُتُبَ حُبَّ السَّكارى للخمْرِ، لكِنّي كُلَّما ازْدَدْتُّ مِنْها شُرْباً، زادَتْني صَحْواً).

النِّبيّ الحبيب هو مِثالُنا الأعْلى في الحياة في كُلّ شيء. لَقد قيل في القديم، “خيرُ جَليسٍ في الأنام كِتاب”. في الكتابِ يَسْبرُ الإنسانُ غَورَ معاني الكَلَمات، فَيُدْرِكُ أُموراً وَيَلْتَفِتُ لِأُخْرى فإذا بِها كَأشِعَّةِ كُنوزٌ تُطهِّر النَّفس من كل سيّال دنيء سُفْليّ يحاول الإيقاعَ بها.

القراءة تَحْمِلُنا على السَّفَرِ إلى أعْماقِ النَّفْس. إنّها المَلكوت الرُّوحِيّ العظيم. إنها الكلمات النَّفيسة التي لا تُقَدّر بِثمَن حيث نُقارِنُ الأمور آخذين الأقرب منها إلى النّور؛ لِنُطبّق الحق فيها مع جميع الكائنات، أكان على الصَّعيد النّفْسيّ أو العَمَلي حيث الفِعْلُ الصّالِح. معاني الكتاب القَيّم نَزْرَعُها في قلوبنا فَتُغْنينا في القناعة عن كنوز المادّة بأسْرِها وكُل ما هو دُنْيَويّ فانٍ.

وكما ورد على لِسان الصّحابيّ الجليل سيدنا عَليّ عليه السلام:” فيكَ انْطَوى العالَم الأكْبَر”. إن كُلَّ كِتابٍ ذي فائدَةٍ لَهوَ كَنْزٌ تتَحَلَّى بهِ النّفْسُ لِتسْمو بالأعْمال الصَّالِحة إلى أعْلى الدَّرَجات.

٢- (أمْتَعُ ما تَهْواهُ عَيني مُشاهَدَتها لِمَكْتَبَتي العامِرَة بِآلاف الكُتُبِ الثَّمينةِ المُتَنَوِّعَةِ المَواضيع. فَنَظري يَتَنَقَّلُ من كِتابٍ لِكتابٍ فَكِتاب، مِثْلَما يَتَنَقَّلُ العُصْفورُ الغِرّيدُ من غُصْنٍ إلى غُصْن فَغُصْنٍ… حَقّاً إنّ المُكوثَ بينَ الكُتُبِ وَمُطالَعَتِها مُتْعَةٌ لا تُعادِلُها مُتْعَةً على الإطلاق).

هُنا نَرى الدكتور داهِش كَمن يَمْنَحنا انْطِباعاً فَريداً عن الكُتُب قارِناً بِها الطّبيعة الأخّاذَةِ الجَميلة المُتَمَثِّلَةِ بالعُصْفور- عُصْفور الغابَة والجَداوِل والسَّماء. إنَّ الكُتُبَ لا سيما المُلْهَمَة مِنْها تَحْوي سيّالاً عُلْوِيّاً (بحسب التعاليم الدَّاهِشِيَّة)، تملأه حياة- تنقُل فيه القارئ المُتَيَقِّظّ الواعي إلى عالَمِها البَهِيّ فيُسافِر سائحاً من منطَقة إلى أُخْرى، في هذا الكون الفسيح، لِيَنْهَلَ من مائها وطعامِها ويَتَنَسَّم هواءها، باعِثُ الروح الجديدة.

٣- (الكُتُبُ هي طعامي المُفَضَّل. وَنَهَمي لالتِهامِ مُتَنَوَّعاتِها لا يُشْبِعُ فُضولي مُطْلَقاً مَهْما طالَعْتُ مِنْها. فأنا أقرأها وأتذوَّقُ حَلاوَتها، وأنْتَشي بِما تَحْويهِ مِن كنوزِ المَعْرِفَةِ التي أوَدُّ فضَّ مَغاليقها، واستيعابِ أسْرارِها المَكْنونةِ دَوماً وأبَداً.)

قد يَجِدَ الرّياضيّ لَذَّةً في تناول طَعامٍ مُعَيَّنٍ لإبْقاء صِحَّتِهِ جَيِّدة. يُمارِسها البَعْض الآخر ظَنّاً منهُ أنَّه بِمُحافَظتِهِ على صِحّته يتمكّن من إطالَةِ عُمْرِهِ- كما أورَدَ النَّبيّ الحبيب لِأخوَة.

إنَّ الرياضة أمْرٌ هامٌّ وَمُفيدٌ لِدَرَجَة مُعَيَّنة. لكن ما مِن من فائدة تُرْجى على المَدى البَعيد للنَّفْسِ إلا الاسْتِرشاد بالكُتُب التي تُبَشِّرْنا بالحَقّ الآتي بالكَلِمة، كَلِمَة السَّماء، وَما أعْلَنَهُ النَّبيّ الحبيب الهادي بالرّوح.

وعلى الجُمْلَة، الكُتب هي وسيلة هامَّة، بَل الوَسيلَة لِنَقْلِ الخَبَر الثَّقافِيّ المُفيد للنَّفْس، وهي الدَّافِع بِها، بإرادَةِ الإنْسان، لِفِعْلِ الخير وتَحْريرِها بالحَقّ من كُلِّ عبوديّة، فالحقّ يُحَرّرنا كما قال السيّد المَسيح عليه السّلام. وهو أيضاً ما نَراه في تَصَرّف النبي الحبيب بالرّوح أكان لِمَن عَرَفَه أو قرأ كلماته. 

الكِتاب كَملكوت ذي أبواب روحيّة موصَدةٌ دونها كنوز روحيّة كَصَرْح عظيم ثابِت أبَداً طَيّ المادّة في عوالِم الروح الخالِدة، حيث مياهها أنهارٌ حَيّةٌ في قُلوبنا، تُحيينا بِرَشْفَةٍ. هكذا السَّفَرُ إلى أعْماقِ النَّفْس- السَّفَرِ الحقيقي. الانتقال بين جُمَلِ الكتاب كالتَّنَقُلِ في الوِدْيانِ والمتاهات المُوصِلَةِ لَنا خَلْفَ أحْجِبة أشْجارِهِ إلى أبوابٍ سِرِيّة دونَها النّور والخلاص وجَنّات كَفردوس عدن بمعانيها الموغِلَة في العُمْق.

٤- (عِنْدَما يَتَوَقَّفُ قَلْبي عن الضَّربات، وَيُلْحَد جسدي في حُفْرَتِهِ الصَّامِتة الموحِشة، أوَدُّ أن تُرافقني جُيوش لَجِبَةٌ مِن الكُتُب، يَدَّثِرُ بِها جَسدي المُسَجّى في حُفْرَتِهِ الخالِيَةِ البارِدة المَنْسِيَّة. فالكِتابُ خَيرُ رَفيقٍ لي في حَياتي، وأتَمَنّى أن يُرافِقني بِمَماتي).

 الكُتُبُ بِسيّالاتِها الخالِدة حياةٌ وَروح وَصَحْوَةٌ تَتَغَلْغَلُ في أعْماقِ النَّفْسِ فَتُحَرِّرها عاتِقَةً إيّاها مِن مَوتٍ إلى حياةٍ، حيث تتشارَك سيّالاتها وَسيّالات (القارِئ)- بِحسب التّعاليم الداهِشِيّة الحَقَّة- فَتُرَقّيها بِحسَبِ دَرَجتها الروحيّة، أو تُسَفّلها إذا كانت سُفْلِيّة تحُضُّ القارِئ على فِعْل الشَّر والعياذُ بالله.

لِذا أوصى الدكتور داهِش بِقراءة الكُتُب ذاتِ الفائدة، لِما فيها مِن تَحْفيزٍ لِعَمَلِ الخير. فالعَمَل بالنّسْبِة للجسَد كروحٍ له. فَبِلا عمَل الجَسَدُ مَيِّت. وهَكذا هي الحياة في كُل شيء. حتّى أن ذَرّات المادَّة إذا ما تَوَقَّفَت أُبيدَت المادّة فتوقَّفَت الحياة. وإذا تفكَّكَت عناصِرها عن بعضها البعض حدث انفجار عظيم يفْتكُ بِمُحيطها.

لِنَقْرأ ما أورَدَهُ الدكتور داهِش عَن نوعِيَة الكُتُب التي يقْرأها:

٥- (وأجْمَلُ ما أتوقُ لِمُشاهِدَتِهِ رُكام من الكُتُب، وتِلالٌ من مؤلّفاتِ الفَلاسِفة والحُكَماء، وجِبالٌ مِمّا أنْتَجَتْهُ قرائحُ العُلَماء والمُكْتَشِفين والمُخْتَرِعين، وخُلاصَةُ ما تَمَخَّضَت بِهِ عُقول وأفْكارُ الأُدباء الأفْذاذ، والشُّعَراء المُلْهَمين المُبْدِعين.)

وفي موضِعٍ آخَر يَقول:

٦- (الصَّديقُ الوَفِيُّ هو الكتابُ. فَإليهِ ألْجأ، وفي رِحابِهِ أرْتَع. ثُمَّ أجوس صَفَحاتهِ، مُنَقِّباً فيها، ذارِعاً سُطورها، مُتَمَتِّعاً فيما أُطالِعهُ، هائماً في الحوادِثِ المَسْطورةِ التي تَرْوي أخْبارَ المُلوك، وحَوادِث القياصِرة، وبَذْخِ الأباطِرة، وَقُصّ مُغامَراتِ الرَّحالَة والمُغامِرين، وحُروب القُوّادِ والفاتِحين، مُتَتَبِّعاً فيها قِصصَ الحياةِ والموت).

في العواصِف والأعاصير المُهْلِكة يَلْجأ الإنسان إلى مخابِئ آمِنة تقيه ثوران الطّبيعة المُهْلِك.

هكذا يَلْجأ النبيّ الحبيب من جحيم متاعِب الحياة وعذاباتِها إلى الكُتُب؛ خَيرُ مَلْجأ، فَيَنْهَلُ من عِبَرِها ما تَرَكَتْ من عِبَرٍ حياتيّة للأجيال التّاليَة. فالشّرّ لا بُدَّ جالِبُ الوَيل والخراب إلى البَشرِيّة ليسَ إلا، كما هي نِهاية المُسْتَعْمِرين بأساليبهم المُلْتَويّة، فَنَتَعلّم من سِيَر حيواتِهم أنهم فَنوا وممالكِهِم وغَنائمهم التي لا تُعَد دون أن يتركوا شيئا مِمّا وعدوا به شعوبهم سوى الأكاذيب والخراب ورُبّما الانقسامات الاجتماعِيّة الحِزْبِيّة منها عند بَعْضِهم.

أمّا رِجالُ الرّوح كالأنْبياء عليهم السّلام والهُداة والعباقِرة الفنّانين والعُلماء، فَخُلِّدوا في التاريخ، تَلْهَجُ نفوس البَشَرِ إلى أعمالهم الخالِدة في وقت الضّيق، كارِعة مِمّا تركوه من أعمالهم المُبارَكة، فَتَسْمو بهم وبِمَن أدْرك قيمة أعمالهم إلى عوالِم الفِرْدَوس بأنْظِمَتِها السَّماويّة العادِلة الرّحيمة.

٧- (للكَلِمَةِ قُوَّةٌ تَخْشَعُ أمامَها القَنابِل الُمُتَفَجّرَة، وَتَنْحَني لَديها الصَّواريخ المُدَمِّرة، وَتَجْثو لِسَيْطَرَتِها المَدافِعُ الهادِرة بِجَبَروت، فالثَّورَة الإفْرَنْسِيَّة ما كانت لِتَنْدَلِع، وتَجْتاح المَلَكِيَّة، إلّا بِفَضْلِ ما دَوَّنَهُ يراعُ فولتير، وَديدرو وروسُّو وَغيرهِم… وَدْريفوس ما كان لَه ان يُغادِر سِجْنَهُ الرَّهيب بِجَزيرَةِ الشِّيطان، لو لَم يُنْقِذهُ دِفاعُ إميل زولا، ذلك الدّفاع الرّائع).

إنَّهُ مَهْما بَلَغ عُتُوّ وَسَيطَرة مالِكي القنابِل النّوويَّة، تَبْقى الكَلِمة مُتَفَوِّقةً عَليها تُقَولِبُ الحياةَ وَتُرْشِدُ النّاس إلى سواء السَّبيل، مُحَطِّمَةً فيهم كُلَّ وَهْمٍ فَتَرْتَقي بِهم مُخَلِّدَةً سيّالاتِهم في درَجات النَعيم العُلْوِيّة؛ مَن اتّبعوا مشيئة الخالِق الرّحيمة الخلاصِية أبَداً. الكلَمة التي إذا ما عملوا بها وعاشوها تُحَطِّمُ فيهِم كُلّ وَهمٍ فَتَرْتَقي بِهِم مُخَلِّدَةً سيَّالاتَهم في عوالم النّعيم حيث الخلود والأنبياء والهداة والمُصْلِحين والقُادة الشُّرَفاء في الرُّقي الأخلاقي بالتَّواضُع والكرم. مع العِلْم تَنْهَضُ الحضارات؛ بالكلمة المَغْروسة في نفوسنا، ما اعْتنينا بها وحَفِظْناها وَسِرْنا بها في كُلّ لَحْظة.

وذلك بِخِلاف كلمات السيّالات السُّفْلية التي إذا أخذَ بها الإنسان زاددته أوهاماً وأحمالاً وهمية يخالها بنفْسه حقيقية فتزيد دون نهاية حتى تقْضي عليه بارْتكابه الشر النابع من الغضب المَقيت (الوَهْمي) الفاتِكِ بالأعْصاب. 

أما المؤمنون، فيدوسون أفاعي تلك الأفكار الدّنيئة التي مَنْبعها دَرَكات الجحيم البائد الكاذِب؛ يدوسونها بكلمة الحَقّ المُحَرّرة وسيف نور الخلاص بالنبي الحبيب الهادي.

٨- (أُحِبُّ الكُتُبَ حُبَّاً جَمّاً إذْ أَجوبُ بِواسِطَتِها ساحاتِ الوَغى، وأخوضُ غمار الأوقيانوسات الرَّهيبة، ثُمّ أُحَلِقُ في الأعالي مُتَحَدِيّاً جَبابِرَة النُّسور، شاقّاً طريقي خِلال الضَّباب العَجيب الغريب،

وَمِن ثُمّ تَراني جَوّاباً للآفاق، مُخْتَرِقاً الصَّحاري الشّاسِعة، والبَوادِي الواسِعة، مُنْدَمِجاً بالمَهْرجانات الصَّاخِبَة الضّاجة بالأفراح، ثُمَّ مُشاهِداً المَآسي المُشْبَعَةِ بالأتْراح، 

وغير ذلك مِمّا تَزْخَرُ بِهِ (كُرَتُنا الأرْضِيّة)،

وَبِما يُمَثِّلُهُ سُكّانُها مِن خَيرٍ وَمِن شَرّ.

جميعُ هذا أُشاهِدُها دون أن أنْتَقِلَ مِن مَكاني بِواسِطَة الكِتاب. فَما أحَبَّ الكُتُب إلى قَلْبي).

هُنا نرى سَفَرَ النّبيّ الحبيب إلى أعْماقِ النَّفْس، وهو التّجوالُ الحقيقي- (فيكم انْطَوى العالَم الأكْبَر)، إنه التّجوالُ بِمَسْحِ الغشاوَةِ عَن العيون فَيُبْصِر الإنسان الأمور كما هي؛ كما خَلَقها الله في عالَمِه الروحي حيث العدالة والمنطق، هكذا كما خلق الله الأمور، لا كما خَلَقَتْهُ تصوّراتنا المادية العَقْلِيّة الفانية، عن ما نُحَلِّلُهُ من تصرّفات بعضنا البعض في الشكوك المتراكِمة، بِسَلْبيّة، لِنَخْلُص بها إلى تدميرنا!

بل بالأحرى، بِخلاص الله الروحي ونظامه العادِل السماوِي، نرى الأشياء وِفقَ طِباعها في السّلام- هكذا، كما شاء الله لها أن تكون عليه بِرَحْمَتِهِ الأبَدِيَّة.

error: Content is protected !!