تأمّلات في كتابات وكلمات الدكتور داهِش في الاضطهاد
1
– (أنا القَوِيّ الجَبّار، والعَنيف الَبتّار. فَمهْما حاوَلَت الأحْداث أن تَتَغَلَّبَ عَلَيّ، أو تُخْضِعني لِجَبَروتِها، فانّها لَن تَعود إلا بِصَفَقَة الخاسِر المَغْبون، وَلَن تَتَمَكَّنَ مِن إماتة ما يَجيش في نَفْسي مِن نَزَعات تَبْغي الانْطِلاق مِن هذه القيود.
كَلّا، أنا لَن أتقاعَس عَن نَيْل أهْدافي وَبُلوغِ اتّجاهاتي التي أطْمَحُ إليها.
وَسَأُحَقّقُ أمانِيّ عاجِلاً أم آجِلاً. وَسَأسْحَقُ ما يَقِفُ في طَريقي مِن عَقَباتٍ كَأداء، وَسَأُرَدّمها تَرْديماً.
وسَأهْزأ بالانْسان، وبالطّبيعَة، وبالقَدَر…
وَسَأبْلُغُ آمالي، وَأحَقّقُ أحْلامي وَأنْفُ الحياة في الرِّغام.)
تُهيبُ بِنا تعاليم الدكتور داهش الجهاد الرّوحِيّ المُسْتَمِر. فإنّه مهما حاوَل البَشَر فَرْضَ قوانين وَسَنّ شرائع واتّباعِ أعْراف، يَبْقى الضّمير الرّوحيّ، بالإرادة، فوق كل قيد مادّيّ. فلا تقاليدهم ولا أعْرافهم وَلا أي قوّة أخرى، سوى مشيئة الله عَزّ وَجَلّ، مؤثِّرة فيما يعْتَزم الإنسان بإرادته فِعْله عن قَصْد أو غير قَصْد. ولكن إن كان دافِعه بحسب ميوله إلى الخير إنسانيّ بإخْلاص فَلْيَمْضِ قُدُماً في تَنْفيذِه.
نسْتَشفُّ من كلمات الدكتور داهِش عَزْمه على تَحْطيم كل قَيد مادّي دون الروحي الراقي يحاوِل إيقاعه في تجارِبِهِ الشِّريرة. وقد أثبَتت الأيام للبشر ذلك بِشهادة الأخوة والأخوات المُقَرَّبين منه. ففي المَحبّة الشافية في طريقها الشاق بِقبول مشيئة الله رغم شِدّة العقبات يعيش الإنسان؛ يَعيش بِتواضُع النّفْس واحْتوائها الضّيقات النفْسيّة على شِدَّتِها. وإذْ تحاول سيالات الشّر غَلبَتنا، كان النَّصْرُ للحبيب بفوزِه بِعالَمٍ روحيّ راقٍ يَخْلُد فيه مع كل مَن جاهَد في الحق متمّما مشيئة الخالِق وحْدَهُ عَزَّ وَجَل.
2- (عَبَثاً يَظُنُّ أيّ مُسَيطِرٍ أنّني أقْبَلُ بالأمْرِ الواقِع، وَأرْضَخُ لَهُ ما دُمْتُ حَيّاً.
وَإذا قُدِّرَ عَلَيّ أن اسْتَسْلِمَ فَيكون اسْتِسْلامي تَسْليمَ الحُرِّ الأبِيّ، لا تَسْليمَ العَبْدِ الذَّليل.)
لقد حاوَل رئيس لبنان الأسْبَق بِشارة الخورِيّ إلحاق أكبَر ضَرّر بِشَنِّهِ حمْلَة اضطّهادِيّة على الدكتور داهِش، ولكن على قَوّتها المُدَمّرة التي حاوَلت التّمَدّد في الأرض باءَت بالفَشَلِ الذَريع. بكل سِلاح شَنّوه على إنسان أعْزَل وعلى أتْباعِه الداعين إلى الفَضيلة، ولكن كانت النّتيجة عودته سالِماً حَيّاً من جحيم النيران.
3- (نُفيتُ لأنّي اتُّهِمْتُ بِكوني أثَرْتُ في نُفوس أتْباعي الثّورَةَ الجارِفة، وَنَفَثْتُ في أرواحِهِم حُبّ تَقويضِ أرائكِ الحُكّاك المُسْتَبِدّين).
إن السّير في سبيل التَّقوى مُعَبَّد بأشْواكِ سيّالات الاضطهاد. وبالتّالي من يَتَّبِع نَهْجَ الصَّلاح مُذْكِياً نارَ الثورة الروحِيّة السِّلْمِيّة الحَقّة يَلْقى إعْراضاً مِمَّن أوعَزَتْ لَهُم نفوسهم التَّعَلّق المُتَفاني بالمادِيّات، وبالتّالي اضطهاداً لُحْمتهُ الحَسَد والغيرة والتّجَبُّر على فاعِلي الخير والإحْسان، برغم وخز ضميرِهِم الحَيّ لهم بِشَكْلٍ عَنيف. لماذا؟ لأنّ الله خلق الكون بِنِظامٍ عادِلٍ يحكمهُ في السيّالات الروحِيّة يراه المَرْءُ فيُخْتَزن بَانْدِهاش لا شعوري في العَقْلِ الباطِن. لكن الجسَد بتَمَرُّنِهِ على السُّلوكِ الخاطِئ ولْنَقُلِ الشرير يُعانِد تلك الطبيعة في الضَّمير الروحِيّ في الإنسان، وإذْ ذاك يولَد الغضب والبُغْض في الإنسان واضطهاد سالِكي الخير والرَّحْمَة.
وإذْ أتَمّ النبي الحبيب رِسالَته في نشر السّلام والفَضيلة لاقى أعْتى حِراب سيّالات الشَّرّ المُوقَظَةِ في نفوسِ أعْدائه، فَقُدِّر أن شُنَّت عَليه حَمْلَةٌ بِيَدِ دولةٍ بِسلاحها وعَديدها، لكن ماذا نقول، إن كان الله مَعَنا فَمَن علينا؟ لذلك خَلَّصه الله عَزّ وجل وهو مَعْدن النّقاء حتّى النهاية، فَقُيَّض له الظَّفَر العَظيم.
ثم نقرأ ما دوّنه الحبيب في كلمات موقِظة للضمير والسّيّالات الخائرة:
4- (الجَبانُ-في شَريعَتي- ليسَ أهْلاً للحياةِ مُطْلَقاً. فإمّا أن (نَجْبَنَ) فَيَسْتعْبدنا القَوِيّ الغاشِم، وإمّا أن نُظْهِرَ (شجاعَتنا)، ونُطْلِقَ (بطولتنا)، فَنَنْتَزِع بواسِطَتِهِما (حُرّيَتَنا) المُقَدَّسَةِ الخالِدة.)
أوجَد الله الشجاعة فقابَلتْها الجبانَة. أوجد الخير فقابَلَهُ الشّرّ. وَمِن نِعَم الله عز وجَل وجود الخير في غيابِ الشّر، والتّوَجّه إليه على الدّوام. فالنور الروحيّ الطّاغي على ما عَداه- يخْتَرق كل السيّالات مهما اشتَدّ ظَلامها، نلْتَفِتُ إليه بإرادتنا إن اسْتَجْمَعْنا قوانا وسِرْنا رغم عَقَباتِ المادّة نحوه، فَنَبْلُغَ بِحَسِب مَشيئة الله عالَماً نورانيّاً في درجة عُلْويّة يُزيلُ عَنّا تشويش الفِكْر المادِيّ الموبوءِ بِحَمْأةِ الحياة وَفَنائها الجَحيميّ الرّهيب.
لكن بِرَحْمَة الله، تكون شَمْسُ الإيمان والرّجاء والمَحَبّة مُشْرِقَةً أبَداً في نُفوسِنا إذا ما الْتَفتنا إلى مَصْدَرِها، مُتَعَزّين بمجيء النَّبِيّ الحبيب إلى عالَمِنا الأرْضِيّ وَبكلماته المُحَررة نفوسنا من سيالات عوالِم الجَحيم المُهْلِكة. فباتّخاذِنا بِوَصاياه عامِلين بها قدر اسْتطاعتنا نَبْلُغُ مَواطِن النَّعيم والخلاص الأبَديّ حيث يشاء الله تعالى.
5- (لَقد حَزّ في نَفْسي مُشاهَدتي أن الأطماع قد ازْدادَت في نُفوس البَشَر، والجَشَع حَفَر أخاديدهُ في أعْماقِهِم جَميعاً؛ كما إنَّ الاخْتِراعات المُرْعِبَة أصْبَحَت هي المُسَيطِرة على شؤونِهِم.)
لقد أرْسَلَ الله أنبياءهُ عليهِم السّلام رحْمَةً بالعالَمين، كي يهدوا الناس إلى سبيل الحَقّ ويُنْقِذوهم من الغرَق في حَمْأةِ الإثم. وذلك كالمُنْقِذ السّاهِر عند الشاطِئ على مَد يَدِ النّجاة للغارِقين في لُجَج المياه الموغِلة في البُعْد والعُمْق مُعَرّضاً نفْسه للخطر والموت المؤكّد في العواصِف الرّهيبة. لكن ذلك المُنْقِذ أجْرته بيده، أما النّبي فيُساعِد نفوسنا مَجّانا بِدافِعِ محَبّة مُطْلَقة دون مُقابِل.
6-( إلى ساسة الغَرْب: أيُّها السّاسَةُ الأقوياء، لَقَد رأيتُكُم تَسْتَبِدّون بالضُّعَفاء، ثُمّ رأيتُكُم تُدَجِّلون على أنْفُسِكُم قُبْلَ أن تُدَجِّلوا على أولئكَ المُسْتَضْعَفين.
– قايين، قايين!.. أين أخوك هابيل يا قايين؟!..)
لَقد وَرَدَ في القُرآن الكَريم قول الله: (يا أيّها الناس إنا خلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنْثى وجَعْلْناكُم شُعوباً وقَبائل لِتَعارَفوا إنَّ أكْرَمَكُم عند الله أتْقاكُم إن الله عليم خبير.)- صَدَق الله العَظيم.
نَسْتَشِفّ من الذِّكْرِ الحَكيم أن الله خلقنا للتآخي والتّآلُف، وأنه لا فَرْق بين أحَدٍ وآخر، فالكُلّ في نظَر الله سواسية. كُلٌّ بِحَسب دَرَجته الروحية في عَمل التّقوى، أكان إفريقيّاً أو آسيوَيّاً أو أوروبياً أو أمريكياً على اخْتِلاف الدّين والعِرْق. ففي قانون السّماء تتمّ العدالة حتّى على الأنبياء أنْفُسهم إذا ما ضَعفوا في امتحان روحِيّ ما. لكن الجزاء الروحيّ الحال على البَشَر إنّما هو لِخيرِهِم حتى يتشدّدوا حائِدين عن حُفْرَةِ الزّلل أيّاً كان نوعها وَذلك لِعودة وَلِرُقِيّ السَّيَّالات الروحية وصعودها التّدريجي حتّى يَتَسَنّى لها التّآلُف والوِحْدة مع بعْضها البعض في عوالمها الروحية التي أتت منها قبل سقوطها؛ فالسيّالات بِرُمّتها مَصْدَرُها روحِيٌّ علويٌّ راقٍ، أما سقوطها في الامتحانات الروحية هي ما سَبَّب لها الانحدار حتّى إلى أعماق الدّركات.
لقد سقَطَ سيّال في قايين فَأذْعَن له بِقَتْلِ أخيه هابيل، فَطُرِد من أمامِ أبويه عليهِم السّلام مُمْسِياً شريداً في الأرْض. وهو وإن آذى شقيقه بالقتل آذى نَفْسَه أيضاً بِتَعْذيب ضميره الحَيّ وقَطْعِهِ الأمَل بالعودة إلى مَلْجأ الإيمان في اجْتِماع المؤمنين، مَن أبْصَر النور من خلالِهم في العالَم- أي والِدَيه.
كذلك حَلّت كلِمات الهادي الحبيب على ساسَة الغَرْب آنَذاك بالتَّأديب كما وَرد في كِتابه العَظيم الرّوحِيّ مُذَكّرات دينار، مَنْ مادوا بِجيوشهم حتّى كادوا يُطَوّقون الكُرَة الأرْضِيّة، مُشبّهاً إيّاهُم بسيّال قايين الهابِط وهو جزاء وِفاق لهم، فهل يَلْتَفِتون إلى النّور فَيطلبون الرحمة والغُفْران من رَبّ العالَمين فَيُرْحَمون من الله؟
7- (يا رِجال التّشْريع والقَضاء!… إنَّ شَرائعَكُم هي إحْدى مَهازِل هذه الدُّنيا وَمساخِرهِا. فالقَوانين لَيسَت بِقوانين اذا طُبِّقَتْ على الضُّعَفاء والفُقَراء دونَ الأقوياء والأغْنياء. فالحُرَّة تُرْغِمونَها على الأكْلِ مِن ثَدْييها ثُمّ تَطلُبون مُحاكَمَتَها. وسارِقُ الرَّغيف تُلْقونهُ في غياهِب السُّجون.. أمّا سارِقُ الألوفِ تُشارِكونهُ الغَنيمة وَتتقاسَمونَها فيما بَينكم، فياللعار!..)
لَقد شاءَت العِنايَة الإلهِيّة بِرَحْمَتِها اللامُتناهية الانتِقام الرّوحِي من مُرْتَكِب الإثم. جَعل الله ضمائراً حَيّة في الناس كي يَحْكُم رؤساءهم المُعَيّنين بين ظَهْرانيهم بالعَدْل بحسب ما يروه في الإنسانية والمَنْطِق مُناسِباً.
أما من يُغَلّبون الظُلم في نفوسِهِم مُمالِئين القويّ على الضعيف بالحُكم عليه بالموت بُغْيَةَ مَرْضاة الزّعماء لغايات شخْصيّة وَرِبْحِيَّة بأنْواعِها يُدْرِكُهُم إذ ذاك عِقاباً لا مَفَرّ منه يأتيهم بَغْتة تأديباً لهم على ظُلْمِهِم الفادِح اللاإنسانِيّ.
8- (إذا انْتَصَرَ الظُّلْم على العَدْل بَعْض الوَقْت، فَلا بُدّ من يَومٍ يَبْطش فيه العَدْل بالظُّلْم، ثُمَّ يَجْعَلهُ عِبْرَةً للأجيال الزّاحِفة.)
قد تتغلّب النّزْعَة السُّفْلِية في الإنسان المُتَمَثِّلَة بالسيّالات الشِّريرة الواعِيَة النّفْس على ارْتِكاب الرّذائل، فإذا ما قَبِلَها الكائن ونَمَت بُذورها في نَفْسِهِ وأذْعَن لها دون عَمَلِ الخير الذي توعِزه السيّالات العلوِيّة في نَفْسِهِ، غَلَبَت أعمال الشَّر على الخير في تَصَرُّفاتهِ، لكن العَدالَة الإلهِيّة قادِرة أن تأتي بمَن اسْتَحَقّت سيّالاتهم دَرَجات أفْضَل واعِيَة- تُمَيّز بِيَقَظةٍ التّصَرّفات الحَسَنة من السيّئة، وإذ ذاك يقفون مع المُعْتَدَى عَليه مُناصِرين إيّاه مَدْفوعين على الأكثَر بِمَحَبّة لم تأتِ نتيجة غيابِ شَرّ، بَل محبّة من السّماء تُعْطي دون أخذ وَتُحيي دون مُقابِل، مَحبَّة لا تَعْرِف للظُّلْمة مَكان- مُتَرئفة بكائنات خارِقة أعْتى العَقبات، مُناضِلة حتّى النّهاية لإعْلاء الحق وَنُصْرَةِ المَظْلوم إلى ما شاء ربّك من وقت. وهذا ما يَنْطَبِقُ أيضاً على الحُرْية التي هي مِنْحة السّماء كما هي. وهي فِعْلُ الخير كما يشاء الله، نُدْرِكُ نتيجَته بِضمائرنا الحيّة في سيّالاتِنا، حيث تَقِف كلّ الكائنات سَدّاً منيعاً لأجْلِها في وقت يشاءه الله، لِمُسانَدة بعضنا البعْض للتّكامُل المُحَتّم على السيّالات الروحيّة الراقية أينما وجدت في الأكوان، ورُغْمَ أيّ شَكل مادّي يتّخذه الكائن في جميع العوالِم.
9- (مَهْما حاوَلَ الطُّغاة البُغاة أن يَدْفِنوا الحُرِيَّة فَلَنْ يَسْتَطيعوا؛ لأنَّ الحُرِيَّة خالِدة حتّى الأبَد وَإلى يوم يُبْعَثون.)
10- (صاحِبُ الحَقّ لا يُعْدَمُ نَصيراً
وإن عَدِمَهُ كان الله نَصيرَهُ.
وَيا ما أبْهى مَصيره!)
يرى المُتأمِّل في كَلِمات الحبيب العَطِرة، النّظام الرّوحِي الإنساني العادِل الجاري في أعْماق نُفوسنا، سواء أدْركْناه أم لا. هو جارٍ كالمياه المُعْتَرِضة كل العقبات، ومُتّخِذة كُل السُّبُل، وبِرُغم قوّتها الجبّارة العجيبة، نراها تقبع خَلف المواد جميعها، بالِغة بِيَنابيعِها في أسافِل طَبَقاتِ الأرْض تروي حتّى الكائنات في نيران البراكين المُبيدة، لكنّها تندَفِع رغم الضَّغْطِ الأرْضيّ إلى سطح الأرض فتروي الكائنات ومنهم البَشَر دونَ مُقاوَمة، وهذا رَمْزٌ لنفوسنا التي عليها التّكيّف مع الضغوطات بهدوء عَميم وصَبْر كبير، تماماً كَفِعْل الماء، التي خُلِقَ منها كُل شيء حَيّ، كما وَرَد عنها في كلمات القرآن السّماوِيّة العَطِرة المُبارَكة المُوحاة.
11- (إنّ للكَرامَةِ الشّمّاء وللحُرِيّة الأبِيّة ثَمَناً فادِحاً من البَذْلِ والتّضحِيات. أمّا الاسْتِسْلام والخُنوع، والذُلُّ وَخُضوع النَّفْس لاسْتِرْضاءِ الطُّغاة البُغاة والرّضوخ لِظُلْمِهِم الشَّنيع… فَهو نَذالة فاضِحة، ونَكْبَةٌ فادِحة لا لَن تَنال مِنّي مَنالاً.)
إنّ كُل مَن عَرَف النّبيّ الحبيب عَن قُرْب لفترة طَويلة أدْرَك صموده العجيب السّلْمي في وجه كُلّ اضطهاد نالَه. كانت أبواب مَنْزِل الرّسالة مَفْتوحة للجميع، وقد عايَن عدد كثير مِمّن زاروه وكانوا بالآلاف، آلاف المُعْجزات إن لَم نَقُل مِئات الآلاف. كُلّهم خَرجوا بانْطِباع عنه لا يُنْكَر في اسْتقباله البَشوش الباسِم لهم وَمُعاينتهم ما كانوا يَنْتَظِرونه من مُعْجزات يَعْجَزُ العَقل البَشريّ عن حَلّ رموزه، لأنّها مُعْجِزات روحيّة لا يشوبها أيّ غِشّ وَتَدْليس.
أمّا الحُرِيّة والكرامة، فهي ما أدْخِل في سَبيلها الشُّرَفاء والأتقياء وأصْحاب الحَق سُجون الاضطهاد وقُتِلوا وعُذبوا فيها ظُلماً.
لقد تَمّ تحْرير الهِند في السّلام، حيث زُجّ بِهادي الهِند والعالَمين غاندي فيه ظُلْما عِدّة مرّات لقاء وقوفه مع الحَق بِعَدَم تعاونه مع سُطة التّوسُّع الاسْتِبْدادِيّة. وهذا ما حَصَل مع كل من سار على نَهْجه. وكانت النتيجة أن تَمّ اليوم الموعود بِتحرير البلاد وعودة الحَق إلى أصْحابِهِ، مَن لَم يُطْلِقوا رَصاصة في وَجْه أعدائهم، بينما نُكّل بالثّوار أشَد تنكيل حّتى الموت.
أفَلا يَنبغي أن تَخْشَع ضمائرنا لهكذا أمثولة؟!
وهل شَهَر الدكتور داهش سلاحاً مهما ضَئل في وجه مُضطهِديه الخُبثاء؟ كَلّا وألف كَلا. بل تمَّم مشيئة الله في قبوله الاضطهاد بصَبْر فنَجّاه الله عز وجل إلى حياة مُباركة، خاض فيها حَرْباً قَلَمِيّة مُقَدّسة ضِدّ أعدائه ليَسْقطوا واحداً تِلْوَ الآخر بحقائق عنهم شَهّرتهم أمام المَلأ إلى يوم يُبْعَثون.
ولْنَقرأ تَعاليمَهُ في الصّبْر:
12- (سَأصْبِرُ على النّازِلات التي داهَمَتْتني، وَقَوَّضَت أحْلامَ عُمْري. وَسَأُوَطّنُ النَّفْسَ على احْتِمالِ الوَيْلاتِ القاصِمَةِ دون وَجَل. وَسَيأتي وَقْتٌ تَنْجَلي فيه هذه الغيوم التي تَلَبَّدَتْ في سَماءِ حياتي السَّوداء.
وَسَأنْسى ما عانَيْتَهُ مِن مِحَنٍ هائلَةٍ وَمَصائبَ مُرَدِّمَة، مُحَطِّمَة للنَّفس، مُحْزِنَة للرّوح.
إذْ يَجِب عَلَيّ الرُّضوخ لِأحْكامِ القَدَر العاتي، دون أن اُسَلِّمَ قيادي لِسُطان الضّعف.
ولْيَكُنْ إيماني بالله وَطيداً، لأنَّ لِكُلّ شِدَّةٍ مُدَّة، وَيَزول كُل شيء..
لأنّ دوام الحال من المُحال، ولَيس بعد التَّعَب والنَّصَبِ إلّا الرّاحَةِ التّامَّة.)
نَجِد في تعاليم الحبيب الأساسيّة أن السيّالات السّفْلِية تَحول إلى إعادة الإنسان إلى الجحيم- والجحيم هو الجحيم الفِكْري الُمَكَدّر للنّفس والحالّ للأعْصاب والآتي على الجَسَد بالأمْراض.
لكن، مشيئة الله عَزّ وجل اقْتَضَت بامْتِحان بَني البَشَر لا لإضْعافِهِم بل لتَقوِيَة الإنْسان ورَفْعِهِ فيهِم وذلك يَشمل الرّجاء والمَحبّة والعَمل الإنساني.
وإذ أنّ صِفة الدّيمومة هي لله المُطْلَق عَزّ وَجَل، فإنّ كُلّ ما دُونَهُ من أحْداث فان. وإذ ذاك، لكل بداية عَذاب نهاية. وإذ اضطُّهِد الحبيب في وقت ما ثُمّ صَبَرَ بإيمان وَرَجاء وسلام في مَحبّة لمشيئة الله العادِلة، عَبَرَ إذ ذاك نهر العذاب الذي حاوَل أعْداءه زَجّه فيه، فانْتَصَر بِقّوة الله وحْده.
لقد أسْلَم نَفْسه لِمَشيئة القَدير، قانِعاً بالقَدَر الإلهِي الذي تُمّمَ بالفِداء الروحِيّ لِمَن اسْتَحقّوا الخلاص بِجهادِهم الرّوحِيّ والجَسَديّ، وهكذا يحيا مَعَه إلى الأبد كل مَن سَمِع كَلِمَته الموحاة التي هي نِعْمَة الخلاص بِمَعْرَفة الحَق حيثما يَحِلّ.