الحقُّ للقوَّة

الحقُّ هو ميزان العدل الإلهيّ، بعيداً عن العين البشريَّة، ولو لم تُدركه النفوس المُتجسِّدة بأشكالٍ مُختلفة، يتجاوز الحدود الثقافيَّة والعلميَّة وحتى المُجتمعيَّة، ولا تغيّره السنون، مهما كثُرَت وتباعدت، ثابتٌ وجود الله عزَّ وجَلّ، مُتحوِّلٌ في النَّفس الإنسانيَّة المُتغيِّرة باستمرار… هو نظامٌ إلهيّ عادل شاملٌ ودائم يُنصف الخلق، ويُشكِّلُ بارقةَ أمل المُستضعفين في الأرض كما في الكون أيضاً. ضرورة أخلاقيَّة، تُنير طريقنا نحو السلوك الأفضل، تُساعدنا على بناء إنسانٍ أسمى، توجّه خياراتنا وتُشكّل تفاعلاتنا مع المُحيط الخارجي للإبتعاد عن الأفعال التي تُسيء أو تُسبِّب الأذى وتنتهك حريَّة وكرامة الآخرين، كذلك مع الأحداث والتعقيدات الحياتيَّة الصَّعبة، لإحداث التغيير الإيجابي على النَّفس البشريَّة والعالم من حولها.
الحقُّ فعلُ أخلاق يُلزم المؤمن به للكفاح من أجله، والسعي وراءه، فرضه الله تعالى لتحقيق التوازن الكونيّ، ولعالمٍ تسود فيه العدالة، وتُحترمُ فيه القيم الإنسانيَّة ولو كان على حساب المصالح والغايات. باب للإرتقاء الرُّوحيّ، فوق المظالم، لا يخضع للتصوُّر البشريّ، ويعلو على القوَّة المُتأصِّلة في الغرور الإنسانيّ، لا ينقسم على ذاته، ولا يتجزَّء، خاضعٌ لقوانين السماء، بعيداً عن الأهواء السياسيَّة والعصبيَّات الدينيَّة، ولا يمكن بأيِّ شكلٍ من الأشكال أن يكون مُجرَّد ممارسة فكريَّة، أو مفهوماً عابراً، ولا مجرَّد إتِّفاق إجتماعي يكمن في خوف الإنسان من العقاب، بل هي إرادةٌ إلهيَّة مُطلقة.
هذا الحقّ الذي يتجاوز كونه مُجرَّد مفهوم قانوني وأخلاقي في أعماق المعنى والوجود، المرتبط بالله عزَّ وجلّ لتحقيق العدل والأنصاف كما التوازن والنظام، أساسه حريَّة الفرد، التي هي حقٌّ من حقوق الأفراد والمُجتمعات الطبيعيَّة.
فالله تعالى الذي خلق الناس متساويين في حقوقٍ لا يجوزَ التنازل عنها كالحياة والحريَّة والتطوُّر والتعبير، حقوقٌ لا تتغيَّر مع مرور الزمن، فهي ليست إمتيازات تُمنح، لأنَّها مُقدَّسة، هبةُ الخالق لخلقه، معروفها ومجهولها. ولا يحقُّ انتزاعها من كائنٍ ما، ممَّا يُعدُّ انتهاكًا صارخًا وعملاً منافياً للأخلاق الإنسانية، ويشكل اعتداءً على كرامة الإنسان. فالعدلُ يقتضي ألا يُحرم أيَّ فردٍ من حقوقه، مهما كانت أسبابه أو دوافعه، بصرف النظر عن الجهة الفاعلة التي تمارس هذا التجريد أو الأسباب التي تدعو إليها، والإعتداء عليها هو إعتداءٌ على الله جُلَّ إسمه.
ولكن من أين يستمدُّ الحقَّ قوَّته الإلزامية، هل من القانون أم من قيمته الأخلاقية؟
يرتبط الحقّ النسبيّ إرتباطاً وثيقاً بالحقيقة المُطلقة، أساسه التعاليم السماويَّة المُنزلة في رسالات الرُّسل والأنبياء، والمُتمثِّلة بالوصايا العشر، ويتداخل من حيثُ المعرفة بين الفلسفة الأخلاقيَّة والتشريعات القانونيَّة المُختلفة والمُتغيِّرة بتغيير الزمان والمكان على أساس المنطق والعقلانيَّة، كما ينطوي على تقييم الإفتراضات بناءً على تماسُكِها وأمكانيَّة التحقُّق منها، من خلال فهمٍ أعمق للواقع المُطلق الكامن وراء المظاهر أو المبادئ الأساسية التي تحكم الوجود. وهكذا، يكون إرتباط الحقّ بالمعرفة من خلال التجارب والملاحظات ضمن حدود الإدراك البشريّ، في حين أنَّ الحقيقة تنطوي على أبعاد جوهر الحياة والوجود.
وانطلاقاً من منطقِ الحقِّ والحقيقة، وضمن حدود معرفة الطبيعة الإنسانيَّة، والتصوُّر الطبيعي للحقّ، إرث البشريَّة المُشترك، كان حقُّ الحياة وإستمراريَّة الوجود هما جوهر الكرامة الإنسانيَّة والأنانيَّة، يرتكز على أساس الحريَّة المُطلقة في القول والفعل، ما ينعكسُ شعوراً بالقدرة على التصرّف وفقاً لمعتقداته مع ما يُدركه من إلهامٍ وأبعادٍ وحوافز، والسعي لتحقيق أهدافه بقوَّةٍ وعزم، كما القدرة على التغيير وخلق عالمٍ يُمثِّله، وبما يراه مُناسباً. وعليه يكون هذا الشعور هو القوَّة الدافعة وراء قوَّة الحقيقة.
وبما أنَّ الإنسان في الحالة الطبيعيَّة ميَّالٌ لإستحواذ الأشياء إنْ غابت الكوابح، كقاعدة عامَّة، إذ يعكس الرِّغبة في السيطرة والتحكُّم، وهذا ما يزيد التوترات والصراعات بين الناس، ممَّا يكون له تأثير سلبيٌّ على العلاقات مع الآخرين، ويُبقي الإنسان في حالةٍ من الضياع والخوف والقلق، ما يُعيقُ تقدُّمه وتطوُّره. وعليه، كان لا بُدَّ من البحث عن السلم والإستقرار من أجل البقاء، بإيجادِ نظامٍ موحَّدٍ ومُشترك يُعطي الحقَّ قوَّته، ولا يُفرِّقَ بين القويّ والضعيف، يُرغمُ الفردَ على التعايش مع حقوق الأخرين، يَحُدُّ من طلباته ورغباته واندفاعاته في إمتلاكه الأشياء، يُلزم الإنسان الفرد ويُخضعه لقوانين الحريَّات والمساواة، ويَصُدُّه بقوّةٍ خارجيَّة. فكانت الحقوق والتشريعات العادلة أساساً لبناء وتأسيس المُجتمعات، وتحويل الحريَّة الطبيعيَّة لكلِّ فردٍ الى حريَّةٍ مدنيَّة، بعيداً عن إمكاناته ومؤهّلاته، ومن فعلِ ما يراه مُناسباً في ضمان حفظ حياته واستمراريَّة وجوده على الصعيد الفردي، الى إلتزامٍ خاضعٍ الى القوانين التي تضمن له ولغيره العيش بكرامة، والإستغناء عن المصلحة الفرديَّة الآنيَّة الى المصلحة العامة ضمن المُجتمع. هذه القوَّة الخارجيَّة هي القانون.
وعليه، يكونُ الحقّ المُتمثِّل بالأخلاق، والقانون المُتمثِّل بالقوَّة، ليسا مُجرَّد مجموعة من القواعد العامّة، بل تعبيرٌ عن القيم الإنسانيَّة المُشتركة، يُمثِّلان المفاهيمٍ الجوهريَّة في تنظيم المُجتمعات، ويرتبطان مُباشرةً بكرامة الإنسان والعدالة الإجتماعيَّة وحفظ النظام العام، يتغيَّران ويتطوَّران مع تغيُّر الظروف والأحوال لتتلاءم مع التغيُّرات في المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية، حيثُ يقومُ الحقَّ على حريَّة الفعل أو عدمه، بينما القانون يُحدَّد الحريَّة ويُلزم العمل به. ومن المعرفة الصحيحة عن العالم والأشياء، كان لا بُدَّ من التمييز وفهم العلاقة بين الحقّ والقانون، حيثُ الأول هو الهدف بينما الثاني هو الأداة لتحقيق هذا الهدف، مع الأخذ بعين الإعتبار أن القانون قد لا يكون دائمًا تعبيرًا صادقًا عن الحق.
وللحفاظ على الحقّ والقانون وقوَّتهما، أساس العدالة الإنسانيَّة، لا بُدَّ من أن يكون الجميع تحت سقف القانون، بغضِّ النَّظر عن خلفيَّتهم أو مركزهم أو ظروفهم، ومهما علا شأنهم ونفوذهم، من خلال محاسبتهم على أفعالهم وضمان مواجهتهم للعواقب المناسبة، من قِبل السُّلطات المُختصَّة، المُستقلَّة والنزيهة، وتعزيز ثقافة المساءلة، وضمان احترام العدالة في جميع جوانب عملها، وإلاَّ إختلَّ ميزان العدالة. وهذا ممَّا يُحافظ على النظام، يُساهم في منع الفوضى، يُساعد في منع الفساد والرشاوى، وتجاوز الخلافات بين الأفراد والمُجتمعات، بعيداً عن الظُّلم وعدم المُساواة. فالجميع متساوون بالحقوق والواجبات ممَّا يؤمِّن حياةً كريمة ويوفّرُ شعوراً بالإستقرار والسَّلام الذاتي.
كذلك تلعبُ الأخلاقُ دوراً بارزاً في توجيه سلوك الفرد واتِّخاذ القرارات من خلال التمسُّك بالقيم الأخلاقيَّة إستناداً الى الضَّمير والإحساس بالمسؤوليَّة، وتتجاوز أحياناً المُتطلِّبات القانونيَّة من حيثُ التَّصرُّف بطريقةٍ عادلة بإِعطاء الأولويَّة للإحترام والتفاهم المُتبادل. ومن خلال التمسُّك بالأخلاق كحقيقة أساسيَّة، يُصبح الأفراد مسؤولين عن أفعالهم ولا يستطيعون التلاعب بالحقائق لتحريفها حسبما تقتضي مصالحهم الخاصّة، وهكذا تكون الأخلاق رادعة لأصحاب السُّلطة والنفوذ من أساءة أستخدام مراكزهم القياديَّة.
كذلك تدفع الأخلاق بالسعي الجدّي، والدراسة الموضوعيَّة، والتأمل العميق، كأساسٍ يُبنى عليه العدل، وذلك بمُعالجة الأسباب والمُسبِّبات الجذريَّة للظلم والألم للأفراد والمُجتمعات التي عانت من جرَّاء الصِّراعات والإضطهادات. كما إنَّ الحفاظ على حقوق الأقليَّات حيثُ المسؤوليَّة المُشتركة ما بين الحقِّ والقانون، بإحترام حريَّة المُعتقّد من خلال حريَّة التعبير، ممَّا يُساهم في تعزيز التماسك الإجتماعي. حيثُ الإعتراف بالحقائق الموجبة لذلك يتطلَّب شجاعةً أخلاقيَّة وشفافيَّة، والعمل نحو مُستقبلٍ واعدٍ ومُشرق. والعدالة دون الإعتراف بالخطأ، تُصبح تعسُّفيَّة، جوفاء، وخالية من أيِّ معنى، تؤدّي الى نتائج غير عادلة، ممَّا يدفع المُجتمع الى الإنحلال الأخلاقي.
ومع الإدراك بأن الحقيقة ليست مُطلقة في عالمٍ يسوده الشرّ وتعمُّ فيه الرذيلة.. أثبتت الأيَّامَ على مرِّ الزمان، أنَّ الذين يمتلكون السُّلطة والسيطرة على الآخرين، بإسم القانون أو الدين أو المال، لا ضَيْرَ لديهم من تخطِّي القانون وإساءة إستخدام السُّلطة والنفوذ الممنوحين لهم وهدر المال العامّ للحفاظ على مكانتهم وصلاحيَّاتهم وصَون مُكتسباتهم، بإتخاذ القرارات الإعتباطيَّة التعسُّفيَّة بناءً على عواملٍ ذاتيَّة مُتغيِّرة، دون الإعتماد على معايير موضوعيَّة لجهلٍ في المعلومات أو نقصٍ في المعرفة أو أنانيِّةٍ في الذات، غير عابئين بما ينتج عنها، من تعميق الخلافات وزيادة المشاكل على الصعيدين المحلّي والعالمي. حتى ولو أضطرُّوا الى قمعِ من هم دونهم باللجوء للهيمنة أو حتى العنف، لإحتواء أيِّ تهديدٍ لا يخدُمُ سياساتهم الخاصَّة، حيثُ يلجؤون بإستمرار الى إذلال الناس وإخضاعهم لمصالحهم الشخصيَّة وأطماعهم الدنيويَّة، بإستخدام التهويل والترهيب والقوَّة أحياناً. كذلك في التحكُّم بالموارد الإقتصاديَّة وتوزيعها على خاصيَّتهم، ومحاولة تقديم الحوافز والمكافآت للذين يطيعون أصحاب السُّلطة ، ممَّا يُسهِّل القدرة على الإستبداد في سلوك الأفراد والمُجتمعات، ويؤدِّي الى الإمعان في مُعاناة الناس الهائلة. وهذا ما يُساعد في زيادة الفوارق بين الحاكم والمحكوم، كما في تفاوت الثروة والقوَّة. كذلك يحاولون جاهدين السيطرة على الأفكار والمُعتقدات والقيم السائدة، والإجتهاد في تهميش ثقافة الأقليَّات وإضعاف هويَّتهم، بتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام خشية التغيير والتجديد، أو نشر المعلومات المُضلِّلة والدعايات المُغرِضة للحدّ من قدرة الأفراد على التفكير والتعبير، وخلق جوٌّ من الخوف والتردُّد، ممَّا يُثبط الإبداع والإبتكار ويؤثِّر في التصرُّفات والقرارات، وقد يؤدي هذا إلى مشاعر الإحباط والاستياء والعزلة الاجتماعية. لذلك كان من الضروري البحث عن مصادر المعلومات والتحقُّق من أخلاقيَّة المُعتقدات، كما التفكير النقدي والتأمُّل الذاتي، لفهم الأمور على حقيقتها وعدم الإنجرار وراء الساعيين للهيمنة وأصحاب المصالح. وهذا إنّْ دلَّ على شيء يدلُّ على إنتهاكٍ صارخ للمبادئ الأخلاقيَّة الأساسيَّة، والإفتقار الى الحدِّ الأدنى من الوعي الروحيّ.
وبين رادع القانون وواعز الأخلاق، تستيقظ في البشريَّة أبالسة الأرض فتعتلي المناصب الرفيعة، وتعيثُ فساداً دون الأخلاق وفوق القانون، مُعتمدين على سوء الفهم الأساسي لطبيعة القوَّة والسلطة، مُعتقدين أنَّ القوَّة تصنع الحقّ لتحقيق أهدافهم وتطلُّعاتهم، وترسيخ مكانتهم في العالم، فتكسر القيود وتتخطَّى الحدود، وتمارس السُّلطة بوسائل الإكراه والقوَّة في القمع وإستغلال الآخرين، وتذهبُ بعيداً في إحتلال الأراضي والدُّول وسرقة خيرات الشعوب، وتَعمد الى تغيير الأيديولوجيَّات لإضفاء الشرعيَّة الدوليَّة على سلطتهم، بشعاراتٍ رنَّانة، كالحريَّات والديمقراطيَّات وحقوق الإنسان وبحجَّة نشر الوعي الديني أو الثقافي. وإحكام قبضتهم وهيمنتهم من خلال التحكُّم بالقرارات الدوليَّة، وقمع الأصوات المُعارضة من غير ضوابط أخلاقيَّة أو قانونيَّة. ممَّا يؤدِّي الى الغطرسة والفساد وتفشّي الرذيلة، ونتائج غير عادلة،كذلك الى الإنقسامات الإجتماعيَّة والدوليَّة، والحروب المُدمِّرة للبشر والحجر، غير عابئين بتأثيراتها ونتائجها السَّلبيَّة على الأفراد والمُجتمعات، وتأثيرها على الأفكار والمُعتقدات والسلوك الإنسانيّ، ما يرتّب مسؤوليَّات كبيرة على الأخلاق والقانون في الأجيال القادمة.
وبإعتبارنا باحثين عن الحقيقة، كونها ليست إعتقادٌ شخصيّ، لا بُدَّ لنا من محاولة القراءة في التاريخ المُعاصر عن أدلَّةٍ دامغة لفهمٍ أعمق للحقيقة والقانون والقوَّة على أرض الواقع. وانطلاقاً من الطبيعة الإنسانيَّة التي تحكم سلوك الإنسان، نرى السُّلطة الحاكمة تُدرك الحقيقة بمفهومها، تسنُّ القوانين التي تصبُّ في مصلحتها، وتتوقَّفُ على قدرتها على تنفيذها. وهكذا نرى الحقيقة والقانون يتوقفان على القوَّة، ومع تغيُّر القوى على الأرض، تتغيَّر معها الحقيقة والقانون.
وبناءً على ما تقدَّم، ومن خلال دراسة الغزو والإحتلال، وفلسفة القوَّة والعدالة، نرى كيف طُمِسَتْ الحقيقة واستُغلَّ القانون وفَرَضَت القوَّة أيديولوجيَّاتٍ جديدة. والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها بنشوء أمريكا وبناء دولة إسرائيل:
حول أمريكا:
أنَّه مع وصول المستوطنين الأوروبيين الى أمريكا الشماليَّة، موطن الهنود الحمر، أصحاب حضارات المايا والأنكا، واعتبارهم شعوبها وحوشاً يجب إبادتها وتطويعها. بدأت سلسلة من الأحداث التاريخية الهامة والمترابطة، شكَّلت مسار القارَّة. ترافقت مع خطوات السيطرة الاستعماريه المباشرة ونهب الثروات الطبيعيه منها، حملات إبادة ضد السكان الأصليين وطردهم من أراضيهم، وطمس هوياتهم واقتلاعهم من جذورهم بشكل منهجي، وحصرهم في محمياتٍ صغيرة، وتدمير مزارعهم والإستيلاء على أراضيهم وتهجيرهم من المناطق الخصبة وتلك التي تتوفر على موارد طبيعية إلى مناطق قاحلة لا تصلح للعيش، ممَّا أدَّى الى خسائرٍ جسيمة في الأرواح والممتلكات. كما قتلوا المُستعمرون مئات الألآف من المدنيين العزل وبينهم النساء والأطفال، وشنُّوا حملات الإعتقالات الواسعة في صفوفهم، ممَّا أدَّى إلى سحق مقاومتهم وإخضاعهم، وتمكين الأميركيين الجُدد من فرض سلطتهم على كل ما يسمى حاليا الولايات المتحدة الأميركية، ولم تتوقَّف عجلة الدماء إلاَّ في بدايات القرن العشرين.
كذلك ازدهرت تجارة الرقيق عبر الأطلسي ونشوء نظام العبودية، وهذا ما أدَّى الى اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، وصراعات مُتكرِّرة بين الدول الإستعماريَّة للسيطرة على الأراضي واستخراج الموارد الطبيعيَّة، وتوسيع المُستعمرات، والتي شكلت نقطة تحول في تاريخ البلاد.
وبينما كانوا يبنون مُجتمعاتهم الجديدة على أرضِ الآخرين، ويعبِّرون عن أحلامهم بالحريَّة والمساواة وحقوق الإنسان، كانوا يقمعون ويستعبدون أصحاب الأرض الأصليين، وكانت الحروب وسياسات الإبادة الجماعيَّة أسلحةً فتَّاكة للقضاء عليهم، ليستمرَّ الإجرام الأميركي بحقِّ الهنود الحمر. وما تزال آثاره من تمييزٍ وتهميشٍ لأحفادهم الى يومنا هذا، مُعتمدين على مُبرِّراتٍ أيديولوجيَّة ودينيَّة.
وكما كلِّ زمانٍ ومكان، يُكتب التاريخ من منظور الأقوياء وأصحاب النفوذ، حيثُ توفِّر الدوافع والقرارات التي شكَّلت الأحداث نهجاً يُديم التهميش ومحو الحقيقة، مع التركيز على القادة والإنجازات لبعض الأفراد والجماعات، وإعطاء الأولويَّات لوجهات نظر المُتحيِّزين التي تمَّ تحقيقها، مُتجاهلين الشعوب الذين تعرَّضوا للقمع والتهميش وما أصابهم من المآسي والمُعاناة التي ما يزال أنين صداها يُسمعُ في آذان الصُّم، ولم يتركوا لهم سوى الموت والخراب الشامل والتعاسة.
وهكذا أُبيدت شعوبٌ بأكملها، وأندثرت لغاتها وحضاراتها، وأُخفيَتْ الحقيقة التاريخيَّة، وعليه يكون الحقُّ للقوَّة. وكما يرى كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، فإن الإنجليز “هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للإبادات الجماعيَّة، فهدفهم في العالم الجديد هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها وخيراتها.
حول إسرائيل:
أمَّا فيما يخصُّ إسرائيل، ففي نهايات القرن التاسع عشر، وبسبب مُعاداة الساميَّة والإضطهاد الذي تعرَّض له اليهود في أوروبا، نشأت الحركة الصهيونيَّة كحركة قوميَّة يهوديَّة، تسعى الى إقامة وطن قوميّ من أجلِ توفير ملاذٍ آمن لهم. حيثُ بدأت الهجرة اليهودية بدعمٍ بريطاني بعد إصدار وزير خارجيَّتها بلفور وعداً بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. ومع إزدياد الهجرة اليهوديَّة هرباً من الهولوكوست ومقتل آلاف اليهود في أوروبا على يد النازيين، تزايد التوتُّر والعنف بين اليهود والعرب، الذين عارضوا تدفق المهاجرين اليهود وسعوا إلى الحفاظ على هويتهم الوطنية. ممَّا أدَّى الى إندلاع حروبٍ محليَّة، صدر على أثرِها قرار الأمم المُتحدة ردًا على الأزمة الإنسانية التي عانى منها اللاجئون اليهود بتقسيم فلسطين الى دولتين، عربيَّة ويهوديَّة.
ومع إعلان قيام دولة إسرائيل، إندلعت حربٌ عربيَّة إسرائيليَّة، أدّت الى توسيع أراضيها. وما يزال هذا النزاع مُستمرَّاً ويُشكِّل أحد أهم ملفَّات الشرق الأوسط، ومحورًا مركزيًا للاهتمام والدبلوماسية الدولية، حيث سعت إسرائيل برعايةٍ أميركيَّة إلى التفاوض على اتفاقيات سلام مع جيرانها العرب مع الحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها. وقد شكلت اتفاقيات أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، نقطة تحول مهمة في عملية السلام، ولكن عملية السلام واجهت العديد من العقبات والنكسات على مر السنين، مع صعود الحركات القومية اليمينية والتطرف الديني في السياسة الإسرائيلية، حيثُ عمدت إسرائيل الى قضم الأراضي وبناء المستوطنات على أراضي الضَّفة الغربيَّة، ممَّا ساعد في اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000، وإثارة المخاوف بشأن آفاق السلام الدائم والعنف المستمرّ والاضطرابات السياسيَّة في المنطقة.
وهكذا نرى مرَّةً ثانية، أنَّ إحتلال أراضي الغير وبناء الأوطان على حسابِ طردِ شعوبها الأصليين، يستلزمان ممارسة القوَّة من قبل مجموعة أو أمة على أخرى. وهو ما يطرح السؤال حول طبيعة مسؤوليَّة الشرعيَّة الدوليَّة كقوة دافعة قوية وراء عملية السَّلام والأمن والعدالة لحقوق شعبٍ شبه أعزل أمام آلة الحرب الإسرائيليَّة، وكيفيَّة تسابق الدُّول لإرضاء إسرائيل المُتسلِّطة تعويضاً ودعماً على حساب أصحاب الأرض الأصليين. وما المبرِّرات التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني سوى نفس المبرِّرات التي استخدمها المهاجرون الإنجليز من قبل في سرقة أرض السكان الأصليين لأميركا واستباحتهم وإبادتهم. وهذا إنّْ دلَّ على شيء يدلُّ على تقارب وجهات النَّظر من حيثُ المبدأ حول التواطؤ الدَّولي في مُناصرة القويّ المُعتدي على الضعيف المظلوم، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. ممَّا يعكس غياب الدوافع الأخلاقيَّة وبُعد الحقِّ والحقيقة والعدالة في سياسات الغزو والإحتلال، وما ارتكاب المجازر بحقِّ الشعب الفلسطيني المُحاصر، وتدمير المُمتلكات وتشريد السكَّان، وانتهاك إستقلاليَّتهم وأمنهم، ووقوف الأمم المُتَّحدة موقف المُتفرَّج، إلاَّ وصمةَ عارٍ على جبين الإنسانيَّة، وانحداراً للمُجتمع الدوُّلي الى الفوضى والإضطراب والخراب.
وممَّا تقدَّم، نستنتج أن القوَّة للحقّ والقانون، ما دام الجميع ملتزماً الأخلاق وتحت سقف القانون، وإلاَّ فعلى الحقِّ والقانون السلام حين يُصبح عُتاة الأمم يتحكَّمون بالحقِّ والقانون. وعندما يعتدي القويّ على الضعيف ويتسبَّب في الصراعات وزرع بذور الفتن ويساهم في إتلاف القيم والممتلكات وأذيَّة الآخرين، فإنه لا ينتهك حقوق أصحاب الأرض فحسب، بل يقوض أيضًا سيادة القانون والعدالة والقيم الإلهيَّة. في حين أنَّه يعمل على بناء مجتمعه المثالي، يستند فيه إلى مبادئ الحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
هذا التناقض الصارخ بين الأفكار النبيلة السامية والواقع المرير، يُظهر لنا كيف أن الاستعمار أدَّى إلى تدميرِ حضاراتٍ عريقة وتراث شعوب بأكملها. إنعكس سلباً على النَّفس البشريَّة، فبينما يتوق الإنسان إلى عالم عادل، تسوده المحبة والسلام، يجد نفسه غارقًا في صراعات وحروب لا تنتهي. ومن رغبةٍ في التحرُّر من القيود والعبوديَّة، والعيش في مُجتمعٍ مُترابطٍ تسوده المساواة في الحقوق والواجبات، تُرى الأنانيَّة والميل الى السيطرة، ما يُنتج الظُّلم والفقر والإستغلال. ومن لهفةٍ في ممارسة أدنى حقوق الإنسانيَّة الطبيعيَّة وحفظ كرامة الفرد وحريَّته وممارسة شعائره الدينيَّة، يُعاني العديد من الأفراد من التهميش والتمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين. وهذا ما قد يدفع الناس إلى التصرُّف بطرقٍ غير أخلاقية لحاجتهم إلى البقاء على قيد الحياة، ما يترك أثآراً في التاريخ الإنساني ما تزال جروحه تنزف الى يومنا هذا، وصرخات ألآمه يقضُّ مضاجع الإنسانيَّة. ويكشف عن الأثار المُدمِّرة للإستعمار والإستغلال.
كذلك يتجلّى التناقض بين المُثُل العليا والأفعال في مجال العلاقات الدوليَّة وحلّ النزاعات، فمن ولاءٍ لمبادىء السلام والتعاون الى تدخُّلاتٍ عسكريَّة عدوانيَّة وصراعات على السُّلطة، ممَّا يمنع إستتباب الأمن والإستقرار الدوليين. ومن الإعتراف بشرعيَّة المبادىء الديمقراطيَّة الى ممارساتٍ غير أخلاقيَّة وإنتهاكاتٍ للإنسانيَّة، ما يؤدِّي الى تآكل الثقة العامّة وغيابٍ واضحٍ للعدالة الإجتماعيَّة. ومن إلتزامٍ مُعلن بالقضاء على الفقر والمجاعة، إلى إتِّساعِ الفجوة بين الأغنياء والفقراء ما يؤدِّي الى تقويض المُجتمعات وحقوق الإنسان.
وعليه، يكون فهم العلاقة بين الحقيقة والقانون والقوة بعيداً عن التلاعب والإكراه هو أمر بالغ الأهمية وأكثر إيجابيَّة لفهم العالم الذي نعيش فيه، ونساهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة.
ومن منطق الحقُّ قوَّة أصبح الحقُّ للقوة. حيثُ انتشى الظالمون بعظمتهم، مُفسدون في الأرض، وعاثوا فيهم ظُلماً وجوراً، مُستغلِّين قوَّتهم حتى استبدُّوا وتجبَّروا وطغوا، مُتناسين عين الله عزَّ وجَلَّ التي تُراقبهم وتمدُّهم في طغيانهم يعمهون.