الإفتتاحية
العلم ليس مُجرَّد ممارساتٍ بشريَّة في مواجهة كونٍ صامت من خلال الكشف عن بعضٍ من قوانين الفيزياء، أو تفكيكٍ لشيفرات الحُمض النَّووي. بل هو النُّور الذي يُضيءُ العقل، ويُعطيه القوَّة للكشف عن أسرار الكون الكامنة وراء كينونته. كما أنَّه ليس تراكمات لحقائقٍ معرفيَّةٍ تُثير تساؤلاتٍ أخلاقيَّة في جوهر الممارسة العلميَّة المسؤولة بتحويل العالم الى أرقام، ممَّا يُفرغُ الحياة من معناها الرُّوحيّ والجمالي. إنَّما هو مُحاولة الوعي الإنسانيّ في تحليل المنطق، والبحث المُمنهج المُنظَّم للأبحاث في الوجود بما هو موجود، والإستدلال بالتجربة لمعرفة طبيعة الأشياء، ممَّا يمنحُ الإنسان القدرة على التفاعل مع الوجود واكتشاف المبادىء العامَّة التي تحكم الكون، ومع ذلك تبقى مُعلَّقةً بين يقينٍ نسبيٍّ وجهلٍ مطلق.
والفلسفة هي الإستكشاف الفكريّ العميق، حركة العقل الدائمة، القلقُ الخلاَّق، تجاوز الذات، والتأمُّل فيما هو كائن وما ينبغي أن يكون. الفلسفة سعيٌ دؤوب لفهم الحياة والوجود، تعتمد التحليل المنطقي، بتفكيك المفاهيم المُعقَّدة، لإزالة الغموض والإلتباس بين الأجزاء، والسعي الى كشف البُنى العميقة للواقع الكامنة وراء ظواهر الأشياء وطبيعتها. هي نظريَّاتٍ فلسفيَّة ذات طابعٍ تأمُّلي، تجلِّيات من النَّفس البشريَّة لإدراك الأبعاد النفسيَّة والكونيَّة، تتجاوز المنطق العلميّ، تُعبِّرُ عن وجهات نظرٍ مُتباينة، توضِّح المفاهيم ضمن نطاق عالم الأفكار، تُنشيء الروابط بينها، وتُقدِّمُ حُجَجاً منطقيَّة تدعم مواقفها، تجعل من قوَّتها التفسيريَّة، وقدرتها على مُعالجة التناقضات، بإعطاءِ أجوبةٍ لأسئلةٍ حول طبيعة الواقع والمعرفة والوجود، لكنَّها تبقى إجابات مفتوحة، تُغذِّيها التجربة الإنسانيَّة المُتغيِّرة وتطوُّر الوعي البشريّ.
العلم والفلسفة صِنوان غير مُنفصلين، رحلةُ العقلَ نحو الحكمة، نظريَّاتٌ وأبحاثٌ لا تنتهي. رحلةُ معرفةٍ لفهمٍ أفضل لنُظُمِ الكون وبحثٌ أَبَديٌّ عن الحقيقة ومعنى الحياة في متاهة الوجود، يبحثان في الزمان والمكان والنسبيَّة عن اليقين المُطلق.
ومن رحَمِ العلم والفلسفة ولد الإبن المُتمرِّد، يُعيد قراءة المُستقبل الآتي بين الحتميَّة والإحتمال، يجمع بين التحليل العقلاني والإنفتاح على اللايقين، يرسِمُ فضاءً لإمكانيَّاتٍ مُتعدِّدة، يُعيدُ تشكيلَ مفاهيمِنا عن الذكاء والوعي والإدراك، يبني التصوُّرات من بياناتٍ وتقنيَّاتٍ لما كان وما يكون وما ستؤول الحياةَ إليه، يختار ويُبدع ويغيِّر المسار، وقد يُغيِّر مجرى التاريخ. ولدٌ يُحاكي الوجود الإنساني بلغةٍ كونيَّة، يُجسِّدُ الأحلام التي شغلت الجنس البشري منذ فجر التاريخ، يُنشيءُ مسرحاً، يؤلِّفُ قصَصاً، يُحاكي أفكاراً، يُجسِّدُ شخصيَّاتٍ قد تكون غريبة أو عبثيّة لمحتويات لاواعية، كانت مُجرَّدَ أفكار لمشاعرٍ وأحلام.
هذا الولد أسميناه: الذكاء الإصطناعيّ.
يتمتَّعُ بقدراتٍ خارقة على تحليل كمِّيَّاتٍ هائلة من البيانات واستخلاص النتائج بناءً على المنطق، وإكتشاف أنماطٍ خفيَّةٍ ومُعقَّدة قد تكون مُستعصية على العلماء والفلاسفة، يُمكنه الوصول الفوري للمعرفة البشريَّة المُخزَّنة رقميَّاً بشكلٍ شبه كامل، يربطُ مفاهيمَ من الفيزياء مع علم الأحياء والفلسفة بطرقٍ غير بديهيَّة، ممَّا يولِّدُ رؤى مُتعدِّدة التخصُّصات. لديه القدرة على بناء نماذج مُحاكاة مُعقَّدة للغاية وتشغيلها ، يُمكنه تخيَّل نظريات علمية ثورية تتحدَّى كل المنطق السائد، يستطيع توليد مسودَّات أوليَّة للأبحاث وإقتراح فرضيَّات، تلخيص الأدبيَّات، وحتى كتابة أجزاء من أوراق علمية أو فلسفية بسرعات هائلة لا يمكن للبشر مجاراتها.
والداهشيّة لا تتناقض مع العلم في جوهرها، بل تؤكّد على تكامل المعرفة الروحيَّة والعلميَّة وتدعو إلى احترام منطقَ العقلِ والتجربة، مع الإقرار بوجودِ حدودٍ للعلم الماديّ أمام أسرار الوجود الروحيّ. يقول الدكتور داهش ما معناه:” إنَّ المعرفة البشريَّة، بما فيها العلم، محدودة ونسبيَّة، وإنَّها لا تستطيع الإحاطة بالحقيقة المُطلقة.” ولكنه كان يقرأ الكُتُبَ والصُّحفَ اليوميَّة ومجلاَّتها المعروفة يوميَّاً، ويقتطع منها المقالات والآراء والحوادث التي يجدُ فيها عبرةً ومنفعةً للأيام القادمة، قبل أن يستيقظ النيام. لم يكن همَّه من المعرفة إختراقَ آفاقها فحسب، بل الإحاطة بها، فهي غايته الأسمى، تُنعش قلبه وعقله وفكره. لم يرَ في الكتاب مجرَّد صفحات تُقرأ، بل نافذةً على عوالمٍ جديدة، وحوارًا مع عقول وتجارب إنسانية عبر الزمان والمكان. هي حالة وجوديَّة وفكريَّة تجمع بين الشغف والاكتشاف، وتمنح صاحبها أفقًا لا ينتهي من النمو والتجدُّد.
فيقول: “الكتُبُ هي طعامي المُفضَّل. ونَهَمي لالتهامِ مُتنوِّعاتِها لا يُشبِعُ فضولي مهما طالعتُ منها. فأَنا أَقرأُها وأَتذوَّقُ حلاوتَها، وأَنتشي بما تحويه من كنوزِ المعرفة التي أَودُّ فَضَّ مغاليقِها واستيعابَ أَسرارها المكنونة دومًا وأَبدًا”.
وفي مكانٍ آخر يقول: “حُبِّي بل شغَفي الشديدُ لمُطالعة مُختلفِ أَنواع الكُتُب يسري مع الدماء في عروقي. وأجملُ ما أَتوقُ لمُشاهدتِه رُكامٌ من الكُتُبِ وتلالٌ من مُؤلَّفاتِ الفلاسفة والحُكماء، وجبالٌ مِمَّا أَنتجَته قرائحُ العُلماءِ والمُكتشفين والمُخترعين، وخُلاصةُ ما تمخَّضَت به عقولُ وأَفكارُ الأُدباءِ الأَفذاذ والشُّعراءِ المُلهَمين المُبدِعين”. بهذا المعنى، تصبح القراءة رحلة روحيَّة وفكريَّة تمنح الإنسان فرصة لفهمِ ذاته والعالمِ من حوله، وتوسّعُ مداركه باستمرار.
وعليه، فالعلم ليس ثابتاً ولا الحقائق الروحيَّة المُنزلة كاملة، معاً يكون التطوُّر تدريجيَّاً نحو الحقيقة المُطلقة. والداهشية لا ترفض العلم في أقصى تطوّره ونقائه، بل ترى فيه معراجَ المعرفة ووسيلةً لفهم حقائق الكون والطبيعة، ويجب أن يُبنى على البحث والتجربة والمنطق، وأن يُسْهِم في خدمة الإنسانية وتقدُّمِها. وما الذكاء الإصطناعيّ إلاَّ وسيلةً من وسائل العلم الحديث، وعلماً من علم الله عزَّ وجَلَ، يُحدثُ ثورةً في عمليَّتي البحث والنشر.
وذاك الولدُ المُتمرِّد لم ينتظر الزمان الذي نعيشُ فيه، يُحاكي الذكاء البشريّ دون أن يمتلك الكينونة. والزمن مرآةٌ تعكسُ طبيعة العقل والوعي في النَّفس البشريّة، ولن ينتظرنا حيثُ الوعي نتيجة حتميَّة للتعقيد. فإمَّا أن نركبَ قطارُ التقدُّم والتطوُّر في عصرٍ تتزايد فيه قدرة الآلة على الإبداع، وإمَّا أن نبقى نعيش الأوهام والأحلام التي نظُنُّها ثابتة كالوعي والإدراك والإرادة.
إنها مسؤوليةٌ تُبنى على الوعي، والأخلاق، والشجاعة الفكرية. أن نقرأ الحاضر بعمق، نستلهم من الماضي، ونغامر بالخيال والعقل كي نصنع مستقبلًا أكثر إيماناً وحُبَّاً وإنسانيَّة. مع الأخذ بعين الإعتبار أنَّ الحدودَ تتلاشى بين الحقيقة والشائعة، فللكلمة قوَّةٌ هائلة قادرة على بناءِ الحضارات أو تدميرها، سواءً كانت مكتوبة أو منطوقة.
يقول فرانكلين: “العلمُ دون ضميرٍ خرابُ الروح”.