أدب الدكتور داهش

مملكة أرهاط الجنّ

 

 

هي مدينة سحريّة حافلة بأغرب ما تقع عليه عينٌ أو يصل اليه خيال ! فهذه المدينة التي يقطنها معشر الجنّ كائنة في أعماق المحيط، وفيها من الكنوز التي لا تثمّن ما يعجز عن تقديره أعظم الأقلام . ويقصر المرء عن احصاء المجوهرات النادرة المكدّسة في هذه المدينة العجيبة . هذه المدينة الوسنانة ، الهاجعة في أعماق المياه كانت تعرف قديماً  باسم الأطلانتيد . وظنّ الفلاسفة والعلماء واختصاصيّو الجيولوجيا ( طبقات الأرض ) أنّ زلزالاً مرعباً مدمّراً قد اجتاحها ،  ففتح المحيط فاه وأغرقها بين لججه الآبدة .

وقد أخطأوا بظنونهم ، وطاش سهمهم ، وخابت آراؤهم ، وأخفقت نظريّاتهم . فهذه المدينة التي بلغت شأواً عالياً بالحضارة السامقة قد استولى عليها ملك الجنّ بوبلاوندا العظيم .

فقد أحاطها بجنده الذي لا يحصى لكثرته ، ودكّت جيوشه بآلات حربها العجيبة المفعول هذه المدينة المتقدّمة برقيّها بين المدن الأخرى . وسلّطت الفرقة الالكترونيّة مفاعلها الذرّية على جهاتها الأربع، وأطلقت منها الأشعّة التي تزلزل شوامخ الجبال فتدكّها دكّاً ، وتعصف بها عصفاً تامّاً . واذا بهذه المدينة الجبّارة ترتجف ارتجاف المحتضر ، وتهتزّ اهتزاز القصبة أمام العاصفة العاتية ، ثم تغور وتتهاوى نحو الأعماق ، اذ انشطرت الأرض تحتها لأبعادٍ سحيقة ، وجعلت الأطلانتيد تهوي رويداً رويداً في أغوار البحر القصيّة ، بعدما شقّت مفاعل الذرّة لجج الماء وشطرتها شطرين ! وهكذا استقرّت الطلانتيد ذات المدنيّة الباذخة في تلك الأعماق منذ تلك الدقيقة ، وأصبحت تحت سلطان بوبلاوندا العظيم ملك الجنّ .

وألقيت جثث مئات الألوف من شعب الأطلانتيد الأموات الى أسماك البحر وحيتانه ووحوشه فالتهمتهم ولم تبق لهم على أثر . ولم ينج من قاطنيها مخبّر على الاطلاق . فكيف ينجو من أصبح في قعر المحيط حيث لا هواء يتنسّمه !

والجنّ يتّخذون لهم أشكالاً وأجساماً عديدة متنوّعة حسبما يرغبون . فعندما يريدون ، لغاية يقصدونها ، الذهاب الى عالم الأرض ، يتحوّلون الى أسماك ، ويخوضون هوج الأمواج حتى يبلغوا سطح البحر ، ومنه الى الشاطىء ، فالمدينة التي قرّروا الوصول اليها ، فيدخلونها بعدما يخلعون جسد الأسماك ويعودون الى أصلهم وطبيعتهم التي كوّنهم الله من مادّتها ، فهم مارج من نار .

                                                           مهمّة هامّة


واستدعى مليك الجن بوبلاوندا رئيس أركان حربه ، وبلّغه أنّ ابنه ووليّ عهده عبقلا قد تيّمته ابنة ملك نيبال تلك الفاتنة الرخصة العود ، سليلة الأمجاد . فالرقّة التي تنثال من أعطافها ومفاتنها أذهلت وحيده ووليّ عهده ، فهو يرغب باتخاذها زوجةً له . ومع أنّ فتيات الجنّ وصبايا الجنّيات وغيدهنّ تتمنّى كلّ منهن أن تحظى بحبّ وحيده ، فهو عازف عنهنّ ، مع أنّ فتنتهنّ تغري الآلهة ، فهو لا يريد عن هاتين بديلة .

  • فاذهب يا قوطاش مع ستمئة جنّي ومئة جنّية ، ولا تعد الاّ وأنت ظافر منصور ، مستصحباً ، برفقتك ، فاتنة نيبال عروس ولدي عبقلا .

                                                           أعاصير جبّارة


كان البحر هادرة أمواجه ، ثائرة أثباجه ، فدويّها رهيب . والعاصفة كانت تضرب صفحته اللانهائيّة فتهتاج أواذيّه ، ويصطدم بعضها ببعض ، فيسمع لاصطكاكها دويّ هائل الآساد وتهابه الجبابرة العظام .

وكانت الأسماك المختلفة الأحجام تخوض جبال تلك الأمواج العاتية في هذه الليلة الليلاء العاصفة .

وكانت البروق تضيء صفحته الهائجة فتظهر الأمواج وهي كالجبال الشامخة ثائرة مدوّية ، والأسماك تتقلّب في لججها ووجهتها الى الأمام ، الى مدينة نيبال القصيّة .

وقصفت الرعود ، وردّدت الأمواج الثائرة دويّها المزلزل ، وتلاطمت أثباج المياه فكانت تارة تعلو فتطاول بارتفاعها شوامخ الجبال ، وطورا تهوي فترود الأعماق السحيقة ، والأسماك تجاهد وتكافح بين صعود وهبوط ، ثم تضطرّ مرغمة الى أن تجوب الأعماق تبعا للأمواج التي تتلاعب بها العاصفة المزمجرة بجبروت قاصف .

                                                         الجنّ سفينته الحوت


وفجأةً ظهر حوتٌ هائل ، فهو أكبر المخلوقات الأرضيّة وأضخمها ، انه بحجم سفينة ! فأمر قوطاش جنوده المتّخذين أجساد الأسماك أن يثبتوا بمكانهم ليلتهمهم الحوت وهو أوّلهم . فمجالدتهم الماء وسبحهم فيه ، وأمواجه بهذه الثورة الهائلة ، يطيلان أيام سفرهم الى مملكة نيبال القصيّة . وها هو الحوت ، فهو سفينتهم السريعة لايصالهم بسلام حيث توجد عروس عبقلا وليّ العهد المحبوب . والتهم الحوت صفوف الأسماك التي دهش من استسلامها العجيب له ، واذ ذاك سيّر قوطاش هذا الحوت وفق هواه ، فمكث جائبا الأعماق تقوده قوّة خفيّة نحو مدينة نيبال التي يجلس على عرشها سعيدا الملك رامانادي والد الفاتنة هاتين.

                                                       وتحوّلوا الى غربان وبوم


أخيراً ، وبعد سير أسبوع كامل وصل الحوت الى نيبال ، وتوقّف عن السير بجوار الشاطىء ، وقوّة خفيّة أرغمته على فتح فمه ، فخرجت أرجال الأسماك من بطنه ، وفور خروجها اتّخذت لها أجساماً مختلفة ، فمنها من تحوّل الى قطط سوداء تموء بأصوات توقر الآذان ، ومنها من استحال الى غربان ساحمة ، وأخرى الى طيور البوم الناعبة ، وغيرها الى سعالى زاحفة ، وبعضها الى أفاع رقطاء تكمن السموم تحت أنيابها . وأمرهم قوطاش بأن يكون اللقاء بالغاب التابع للبلاط الملكي ، فهذا الغاب شاسع المسافات ، ظليل الأشجار ، يجري فيه نهر سائغة مياهه ، رائعة شطآنه . واتخذ قوطاش شكلا له بلبلاً شادياً ، وحلّق بالفضاء ووجهته قصر الملك راماندي .

                                                          البلبل العجيب الصّدح

واستيقظت هاتين المغناج ، وفركت عينيها ، ثم وقفت أمام النافذة تمتّع بصرها بأشجار الحديقة الوارفة وأزهارها البديعة الفاتنة …

وكان بلبل حالك الريش يقف على غصن شجرة تحمل عوضاً عن الأثمار أزهاراً قانية . وغرّد البلبل فسحر المسامع ، فتسمّرت الأميرة وهي مذهولة مشدوهة من هذا التغريد الأخّاذ ، وتمنّت أن لا يفارق هذا البلبل الغصن ويستمرّ بشدوه الملائكيّ .

لقد سمعت ، قبل اليوم ، تغريد البلابل ، واقتنت عدداً منها ، وكانت تسرّ لتغريدها . أمّا هذا البلبل فتغريده يختلف كلّ الاختلاف عن تغريد البلابل الأخرى ، فشدوه ساحر يستولي على الألباب وكأنه قادم من عالم غير عالم الأرض ! فيا له من تغريد سماويّ ! وصمت البلبل ، ثم طار وحطّ على شجرة أخرى بعيدة عن نافذة الأميرة ، وراح يشدو ، ثانية ، وكان شدوه أخّاذاً ساحراً!

                                                           رغبتهما امتلاك البلبل

وقرعت الجرس بأنملها ، فهرعت وصيفتها اليها ، فاستعجلتها بالذهاب الى شماهندر صيّاد القصر الملكيّ ، واستدعائه فوراً وبسرعة خاطفة .

انحنى أمامها باحترام فائق :

  • مريني يا أميرتي ، فأنا عبدك المطيع .
  • شماهندر ، اني أريد هذا البلبل الصدّاح ، فابذل براعتك ودع خبرتك تقتنصه ، ولك مني مكافأة كبرى .

وأصاخ  شماهندر لتغريد البلبل ، فذهل لصدحه العذب ، وقال لها :

  • سأقوم بالمستحيل للحصول عليه ، أيتها الأميرة المحبوبة .

                   
                                                         الصيّاد المدهش

كان شماهندر كبير صيّادي البلاط الملكي ، فخبرته في الصيد عظيمة . فعندما يجوب الملك غابات بلاده الشاسعة ، يترأس شماهندر حفلة الصيد ، اذ انه خبير بها خبرة كبرى ، فكم من النمورة الشّرسة قادها أسيرة ذليلة ، وكم من الذئاب المفترسة الضارية خضد شوكتها فعلقت بشباكه . وكان الملك يعتمد عليه لمهارته الملحوظة في قنص كلّ أنواع الضواري وسواها من حيوانات الغاب وطيور السماء .

أسرع شماهندر بخفّة النمر الى غرفته ، وأخرج من صندوق قنّينة خفق ما بداخلها من دواء ، وسكب بأنبوب مستطيل ممّا فيها ، ثم ضغط على زناد بمنتصف هذا الأنبوب ، فاندفع الدواء زخماً من الأنبوب للشجرة ، وكان البلبل ما يزال يشنّف الآذان بشدوه ، وبسرعة هوى البلبل عن الشجرة لا حراك به . 

لقد خدّره الدواء من الأنبوب فحمله بين يديه وأسرع عائداً الى الأميرة ، ووضعه أمامها . وكم كانت دهشتها عظمى .

  • شماهندر أيها البارع طمئني , أولا , هل مات هذا البلبل المذهل الشدو ؟
  • كلا , بل هو مخدّر , ويستمر مفعول الدواء نصف ساعة , ثم يزول عنه تأثيره . وانتزعت الأميرة خاتمها الماسيّ الثمين , وقدّمته إليه قائلة :
  • هو لك يا شماهندر .

فشكرها , وقفل عائداً .

واستدعت الأميرة وصيفتها , وقالت لها :

  • أسرعي وأتني بقفص لأضع البلبل فيه , ثم أوصي صائغ القصر بأن يصنع قفصاً أسلاكه من الذهب الخالص لأضع هذا البلبل الرائع فيه .

وأحضر القفص , وابتدأ الصائغ بعمل القفص الذهبيّ .

                                                     أحرقته نيران الجنيّة

وشيّدت قبيلة من الغجر خيامها في رقعة من الأرض بضواحي نيبال . وعدد أفراد هذه القبيلة ستمئة بين رجل وامرأة وشيخ مسنّ وأطفال ناشئين . فخرج سكّان نيبال ليشاهدوا ألعابهم المسليّة . وكانت نيران مواقدهم مشتعلة , فهم بارعون في الصيد , وقد وفقوا اليوم بما اصطادوه من أرانب وثعالب وحجال . وها هي اللحوم تنضج في القدور .

والرقص قائم على قدم وساق , وعدد كبير من سكّان نيبال متجمهرون يشاهدون رقص الغجريّات العجيب الغريب .

ونساء الغجر وفتياتّهن يسبين القلوب بجمالهنّ الملحوظ , وكنّ يتضاحكن وهنّ يرقصن رقصات تثير الجماد , فتألب شبّان نيبال حولهنّ , وجعلوا يصفقون للراقصات المبدعات بفنهنّ المعجز .

واستبدّ الإعجاب بشاب راعته راقصة شديدة البراعة بفنون رقصها الأخاذ . فحاول مداعبتها , مادّاً يده إلى وجهها , وإذا به يعيد يده وهو يصرخ من حدّة الألم . وكانت كفّه مصابة بحرق بالغ , فكأنه أمسك بقطعة من الحديد المتّقد كالجمر !

وفشا الخبر في مدينة نيبال , وتناقلته الألسن , وبلغ مليك البلاد ؛ فأرسل جنده في اليوم التالي للحادث , خصوصاً أن الشاب قد تسمّم جسده , وتوفي في الليلة نفسها . وأمر الملك جنوده بأن يحيطوا مضارب قبيلة الغجر ليبدأ التحقيق بكيفية حصول هذا الحادث الغريب , وبإحضار الفتاة التي أصيبت يد الشاب بالاحتراق عندما لمس وجهها .

                                                          اختفاء مذهل

ووصل الجنود الى مضارب الغجر ، فاذا برقعة خالية خاوية تنعى وحدتها وانفرادها وانعدام الحياة فيها .

وضرب قائد الجند أخماساً بأسداس :

  • أين اختفت القبيلة ؟ هل انشقّت الأرض وابتلعتهم بقضّهم وقضيضهم ؟ حقاً ان هذا الأمر لمحيّر للعقول !

وسئل الكثير من المارّة هل شاهد أحدهم رجال القبيلة وهي ترحل ؟ وكان الجواب واحداً : لم نر أحداً على الاطلاق !

وعاد قائد الجند الى مليكه ، وبلّغه أمر هذا الاختفاء العجيب ، فدهش للغاية ، وأصدر أوامره الى نقط الحدود والى الجهات المختصّة لكي يقلبوا الأرض ، باحثين عن هذه القبيلة الشيطانيّة ، ويحضروها أمامه ليرى أمره معها .

                                                   هل حقيقة أم خيال ؟


كان البلبل الغريد قد اعتاد على الأميرة مثلما اعتادت عليه . انه ، الآن ، طليق لا يدخل الى قفصه الذهبيّ الاّ ساعة النوم ، فهو حرّ بذهابه وايايه . وكانت الأميرة تطعمه الحبّ بيدها ، وعندما يملأ جوفه بالطعام يقف على كتفها ويغرّد أغاريد لا تملّها الآذان . فأصبحت الأميرة لا تطيق بعاده ، فهو لعبتها المسلّية ، وأنغامه الرائعة تبعث المرح في أعطافها ، فهي لا ترضى عنه بديلاً . انه بلبلها المفضّل وسميرها الذي لا يملّ .

في اليوم السادس لوجود البلبل معها – وكانت نائمة ليلاً – استيقظت على حركة في غرفتها ، ففتحت عينيها ، واذا بها تكاد تصعق ، اذ شاهدت رجلاً وسيفه الطويل مثبت على جانبه ، وشارباه مستطيلان ، ونظراته صاعقة ، فأطلقتها صرخة ذعر مدوّية ، فتوارى وراء السجف المسدول . وعلى أثر صيحتها اقتحم الغرفة عدد من الجنود . فاشارت بيدها الى السجف وهي ترتجف وتقول :

  • هو هناك ، هو هناك .

ولكنّهم  لم يجدوا وراء السجف أحداً . وكم كان خوف الأميرة طاغياً ! أقسمت لهم ان رجلاً علق السيف على جانبه ، مستطيل الشاربين ، شاهدته بأمّ عينيها وقد توارى وراء السجف عندما أطلقت صيحة الذعر ! فكيف تبخّر ؟ !

وقد ظنّوا أنها واهمة اذ تخيّلت أنها أبصرت شخصاً في غرفتها ، وقالوا :

  • لا شكّ انها كانت تحلم .

أجابتهم :

  • وهل كان المئات من سكان نيبال حالمين عندما ذهبوا الى قبيلة الغجر التي اختفت آثارها ؟ !

وهل الشابّ الذي احترقت يده من لمسه وجه الراقصة الغجريّة كان حالماً ؟ !

فنظروا بعضهم الى بعض ، والدهشة مرتسمة على وجوههم ، وهم لا يبدون ولا يعيدون . ولاذوا بالصمت المطبق .

                                                        الكاهن المدجّل

واستدعت الأميرة رئيس الكهنة ، وأعلمته بالحادث ، فأحضر بخوراً مقدّساً وأطلقه في غرفة الأميرة وهو يهمهم ويدمدم ، ثم يقفز للأمام ، ثم الى الوراء ، مقسماً على الشيطان الرجيم أن يذهب من غرفة الأميرة ولا يعود اليها اطلاقاً ؛ فما شاهدته هو الشيطان وقد اتّخذ جسد رجل ، وما هو الاّ ابليس الرجيم – لعنه الله .

هذا ما قاله الكاهن للأميرة وطمأنها بأنّ الشيطان لا يستطيع بعد اليوم الظهور أمامها بعدما قام بمراسيمه الدينية التي صعقته وجعلته يولّي الأدبار عائداً الى جحيمه المتلظّي بخالد النيران الأبديّة .

                                                  الجنيّة سلاوند تعشق الراعي

ووضع حرس حول غرفة الأميرة صيانةً لها ، وعادت البعثات فاشلة ، اذ لم تعثر على أثر لقبيلة الغجر .

وكان معشر الجنّ يرودون بطاح مدينة نيبال ويتسلّقون جبالها ، ويهبطون أوديتها ، ويدخلون هياكلها الحافلة بتماثيل الآلهة ذات الوجوه الجامدة ، والأسارير المخيفة ، والعيون الجاحظة ، والأفواه ذات الشفاه الضخمة . وكانت الجنيّات يجمعن الأصداف من الشواطىء البحريّة ، والحصى من الشطوط النهريّة ، فهي حلاهنّ المفضّلة . كما كنّ يقتطفن من أزهار البرّية ويعقصنها بشعورهنّ المسدلة على أكتافهنّ .

وقد عشقت احدى الجنيّات راعي أغنام ، فكانت ترافقه في حلّه وترحاله ، وترود الغابات الظليلة معه ، وتصغي الى قصصه التي يرويها لها ، وهو غير عالم بأنّ من استبت لبّه لا تمتّ لعالمه البشريّ بصلة ما . ومع أنه على يقين بأنّ حبيبته سلاوند مغرمة ومتيّمة به ، فانها لم تسمح له قطّ بأن يقبّلها ولو مرّة واحدة ، اذ كانت تمانع رغبته ممانعة تامّة ، وقد استحلفته بمقدّساته أن يعدها بعدم محاولته لهذه الرغبة . فدهش غاية الدهش ، ووعدها بتنفيذ رغبتها لأنّ حبّه العظيم لها يجعله طوع رغبتها .

               

       عالم الجنّ لا يأتلف مع عالم البشر

وفي أحد الأيام كانا يستظلاّن بشجرة ضخمة ، والأغنام مستلقية بقربهما ، فهجعت سلاوند وهي مسندة رأسها على ركبة حبيبها الراعي ، ثم استغرقت في نوم هنيء ، فراع الراعي حسنها الخلاّب ، واستهواه ثغرها الأحوى ، وقال بنفسه : لقد أقسمت لها أن لا أحاول تقبيلها ، فلأثبت على قسمي . فأنا لن أحاول ذلك ما دامت بحالة اليقظة ، لأنني أقسمت لها على أن لا أمسّها ، وسأفعل .

أمّا الآن فهي نائمة ، فانا بحلّ من قسمي . ما دامت نائمة . ولذلك سأغتنم هذه الفرصة الفريدة وأقبّل ثغرها الشهيّ .

وانحنى على ثغرها ، وطبع قبلة على شفتيها ، ثم ارتدّ الى الوراء وهو يصرخ صراخ الذعر الهائل ، فقد التهمت النيران شفتيه فظهرت أسنانه وقد اسودّت لشدّة اللهيب المضطرم . ثم ما لبثت النيران أن شبّت بجسده والتهمته .

فاستيقظت سلاوند , واذا بها تجد حبيبها الراعي قد استحال الى كتلة من النيران الملتهبة . فردّدت قائلة :

-عجيب أمر أبناء الأرض , يقسمون ثم يخنثون بيمينهم , فيلقون جزاءهم .

وأمسكت قبضة من التراب ألقتها على الخراف , فاذا هي تتحول الى فئران وجرذان , ثم تفّر هاربة في القفار !

واقتطفت سلاوند ضمّة من حبق الغاب  واضمامة من الورود البريّة وضعتها على بقايا رماد جثمان الراعي , ثم انتفضت فاذا هي يمامة بيضاء , فبسطت جناحيها , واعتلت الفضاء , ثم استقرّت على غيمة متكاثفة .

 

                                                    واختفت آثار الأميرة

وأبطأت الأميرة هاتين بالخروج من غرفتها على غير عادتها , فقرع رئيس الحرس غرفتها دون أن يجيبه أحد , فاضطر لأن يقتحم الباب . واذا بغرفة الأميرة قاع صفصف . فقد اختفت هاتين بصورة عجائبيّة , اذ إنّ الباب محروس جيداً , ولا منفذ سواه , والنافذة شاهقة الارتفاع .

وبلغ الملك الوالد الخبر , فثارت ثائرته , وأمر بأن تقطع رؤوس كبير الحرس وجنوده , فنفذ أمره فوراً .

واهتاجت المدينة بقضّها قضيضها , وانتشرت البعثات الحكوميّة تجوب المدن , وترود الدساكر , وتنقّب شعاب الجبال , وتهبط الأودية باحثة عن الأميرة … ولكن دون جدوى !

فلبست العاصمة حداداً , وغرق البلاط الملكي بالحزن , وارتدى الملك المسوح , وأبى أن يتذّوق الطعام حزناً على ابنته التي كان يحبّها حبّا عارماً .

وأذيع في طول البلاد وعرضها أن الملك يهب نصف مملكته لمن يجد ابنته , واذا كان شابّاً فيزوّجه إيّاها , فتطوّع عشرات الألوف من شبّان نيبال , كلّ منهم طامع بأن تكون الأميرة زوجته .

لكنّ تحرياتهم ذهبت أدراج الرياح , فكأن الأرض انشقّت وابتلعتها !

وكان قوطاش قد سكب لها في الشراب مخدراً . وعندما استغرقت في النوم حملها بين يديه , وسار بها ممّر سرّي كان قد شاهدها تخرج منه ثم تعود , وهو يقود الى النهر . ومن هذا الباب السري استطاع قوطاش الفرار بالأميرة من قصرها المنيع وهي مخدّرة .

                                                          هاتين في الغار


واخترق قوطاش المحيط يتبعه الرهط المؤلف من 700 جنيّ وجنيّة . وقد استبقى ستة منهم يحرسون الأميرة هاتين في غار شيّدته الطبيعة بشعاب جبل أشمّ . فمعشر الجنّ يستطيعون اختراق البحار دون أن يصيبهم ضرر لعدم حاجتهم الى الهواء في أعماق المحيط .ومدينة الأطلانتيد الثاوية في تلك الأغوار السحيقة لا يمكن أيّ بشريّ أن يحيا فيها , إذ لا هواء يتخلّلها , وقد أصبحت ملكاً لبوبلاوندا العظيم . اذا , لا يمكن  الأميرة هاتين ان تحيا في تلك الأعماق , فهي ليست جنيّة لتستطيع ذلك . لهذا ارتأى عبقلا أن يبقيها في الغار بحراسة ستة من الجنود الصّلاب ليستطلع أمر مليكه .

                                                       معضلة عسيرة الحلّ

وصل الرهط الى مدينة الأطلانتيد , واستأذن قوطاش بمقابلة ملك الجنّ بوبلاوندا . فأذن له . وحال دخوله لغرفة العرش الفائقة الجمال , سجد بين يدي المليك العظيم , فأذن له بالكلام .

  • أي مليكي العظيم , يا ابن النار المتأججة , لقد قمت بمهمّتي على أحسن وجه , ونجحت النجاح التامّ . وسبب تأخرنا بالعودة هو وجود الأميرة برفقتنا . فنحن نستطيع التشكّل بأية أجسام تختارها : أسماك , وحوش , طيور , أزهار ,حجارة  الخ … ولو لم تكن معنا لعدنا فوراً للمثول بين يديك . اذ كنا نتخذ ساعتذاك أجساد نسور , ونخترق الفضاء حتى نبلغ الأطلانتيد , ثم نعود للأصلنا .

أما والأميرة من المعدن البشريّ , ولا يمكنها أن تتزيّا مثلنا بجسد نسريّ أو بسواه , فقد اضطررنا لأن نسير معها , قاطعين الفيافي , مجتازين السهول , مرتقين الجبال , هابطين الأودية , مخترقين الأنهار متوغلين في غابات لا نهائية . وقد اعترضتنا صعاب ذلّلناها حتى بلغنا , أخيرا , مدينتك الحصينة الأمينة .

فهنأ الملك قوطاش , وقال له :

من العجيب العجيب أنه لم يخطر لنا ببال مسألة عدم استطاعة الأميرة الهبوط الى مدينتنا الأطلانتيد وإلاّ لعدلنا عن الفكرة ولما جشمتكم مشاقّ هائلة في سبيل الفوز بها وإحضارها .والآن كيف السبيل لحلّ هذه المعضلة ؟

 

             
                                                         عبقلا الهائم بهاتين

ودخل وليّ العهد على والده , وأعاد قوطاش بأمر الملك حديثه عن رحلته , ثم عودته مع الأميرة , ثم معضلة استحالة الهبوط بها في اطلانتيد . فاستبدّ الشوق بعقلا , وراح يسأل قوطاش عن الأميرة : كم عمرها , وما هو طولها , وهل هي نحيلة أم ممتلئة , وعيناها هل فيهما إغراء , وعن صدرها , ونحرها , وثغرها الخ …

ثم ألحّ على والده أن يسمح له بالذهاب اليها ما دامت لا تستطيع الحياة في مدينة لا يتخللها الهواء , وقال لوالده :

  • سأشيد لها قصراً لم تر مثله الأرض , فستكون أبوابه من الذهب الخالص , وسأزين جدرانه بالماس الوهّاج , والجواهر اليتيمة , ولآلئ البحار الناصعة البياض . وسيكون سريرها من المرجان المطعّم بالذهب الإبريز , وسأغرس لها حديقة هي أعجوبة خلائق الأرض قاطبة , وسيكون في هذه الحديقة جميع ما تنتجه الأرض من الأثمار الجنيّة الشهيّة .

وستوشّي هذه الحديقة أزهار البابونيا والنسرين والفلّ والياسمين , والأضاليا وشقائق النعمان والحبق والمنتور , والبنفسج والورد والقرنفل ولسان الديك , ودوّار الشمس وبخور مريم والبيلسان الناصع . وسأطلق في هذه الجنة آلافاً من الطيور الملوّنة المغرّدة لتحيل الجنة فردوساً لا يشبع نهم الناظر اليه .

وستتبختر الطواويس ذات الريش السحريّ الألوان في هذا الفردوس لتسّر حبيبتي من هذه المناظر الفاتنة , وهي جالسة على مقعدها العاجيّ بين نوافير المياه التي تنفث مياهها نحو الأعالي .

وسيداعب النسيم شعرها , بينما تسكب وصيفتها أمام قدميها أثمن أنواع العطور , فيتضمّخ الفضاء , وتتنسّم معبودتي هذه العطور المنعشة فتسرّ وأنشرح لسرورها .

فبحق عرشك العظيم , يا والدي , دعني أذهب الآن لأجتمع بها . فقد لجنّي الشوق لمشاهدتها . وأعدك بأن أمكث معها ستة أشهر , ثم أعود فأمكث معك الستة الأشهر الباقية من العام , وهكذا أفعل في كلّ عام .

                                                        عود على بدء

  • اذهب يا ولدي الحبيب , اذهب يا عبقلا الرطب العود , فهنيئاً لك هذه الأميرة الفاتنة .

وانتزع الملك من كرسيّ العرش أكبر جوهرة , وقدّمها الى ولده , قائلا له :

  • بلغها تحياتي , وهذه هديتي اليها .

وذهب وليّ العهد مع قوطاش وبرفقته ألف من الجنود الصلاب.وكالمرة السابقة استحالوا الى اسماك حتى بلغوا الشاطئ , ثم تحولوا الى طيور فبسطوا أجنحتهم ووجهتهم الغار في أعالي الجبال الشماء , وهم يتبعون قوطاش ليهديهم الى مقر الأميرة هاتين .

 

                                                شهوته العارمة أوردتها موارد التهلكة

أخيرا بلغوا مقرّها ، واستقرّوا على الأشجار ، فامتلأت بهم . وكان صداحهم يملأ الغاب ويشنّف الآذان . فقد أمرهم وليّ العهد باطلاق حناجرهم في التغريد ابتهاجاً لوصولهم الى مقرّ الحبيبة المفدّاة .

وعرف الحرّاس الستة الذين يحرسون الأميرة أن هؤلاء الطيور هم أبناء بجدتهم ، فحيّوهم ، وانحنوا أمام أميرهم وليّ العهد . وبلّغوه أنّ الأميرة مستغرقة في نوم عميق اذ حاولت الانتحار ملقية بنفسها من أعالي الجبل الى الوادي ، ولو لم يدركوها في اللحظة الأخيرة ويمنعوها من القاء نفسها لقضي عليها .

لهذا اضطرّوا لأن يسقوها عصير نبتة الخلنج  المنوّمة . فهال الخبر الأمير ، وطار صوابه شعاعاً ، وأمر أن يذهبوا به حيث توجد .

ودخل الأمير الى الغار ، وشاهد الأميرة مستلقية على فراشها ، مغمضة عينيها . وكان السحر الحلال يحيطها بفتنته الأخّاذة ، ووجهها المستدير كأنه البدر المنير . كانت مسدلة الشعر ، لطيفة التقاطيع ، رائعة الثغر ، فكأنها فينوس ربّة الجمال وقد تجسّدت أمامه .

وأمر الجميع بالخروج ، فصدعوا في الأمر ، ولم يبق الاّ الأمير والأميرة . وأكبّ على ثغرها يقبّله بوله عارم ، وبشوق هائل ، ناسياً انه مارج من نار . واذا بالنار تتأجّج فيها بجبروت صارم ، وبلحظات أصبحت قبضة من الرماد الخابي .

                                                          وليّ العهد ينتحر

وأطلق عقبلا صيحة الهول ، فأسرع جنده بالدخول الى الغار ، فبهتوا اذ شاهدوا قبضة الرماد ، فعرفوا كيف وقعت الطامة ، وكيف كان هلاك الأميرة . ولطم وليّ العهد وجهه ، وقطّع شعر رأسه ، وناح نواح الثكالى ، ثم رطم رأسه بجدران الغار حتى تفجّرت الدماء منبثقة منه . وبينما كان يجود بالروح ، طلب منهم أن يضعوه مع رماد الأميرة بلحد واحد ، وفي الغار نفسه . وناح الجند الألف نواحاً عظيماً على هذه الفاجعة التي زلزلت أركانهم ، فاجعة فقدان وليّ عهدهم العظيم .

ووقف قوطاش أمام رفات وليّ العهد وقال :

  • أي عبقلا الراحل الى عالم الخلود ، لقد خلق الله أبناء البشر من طينة تختلف عن طينتنا نحن ، فهم خلقوا من طين وماء ، ونحن خلقنا من مارج ونار ، ومن المستحيل أن يأتلف المختلفان معاً .   وأكمل قائلا :
  • ولكن ما يدريني ، الآن ، فقد تكونان اجتمعتما معا في عالم تزول فيه الفوارق والممنوعات . 

وغادر أرهاط الجنّ الغار الحتوي على رفات الحبيبين ، مطلقين عليه اسم ” غار الجنيّ  والانسيّة “.

الدكتور داهش 
من كتاب قصص غريبة وأساطير عجيبة، الجزء الثاني 

نيويورك ، تاريخ 30 تموز 1978

               

error: Content is protected !!