أدب الدكتور داهش

ظلم قبيلة المردة


كانت قبيلة المَردَة هي السائدة والمتحكّمة بشؤون الشعوب التي بسطت حكمها عليها. وكانت أحكامها صارمةً تنفّذ بقسوةٍ وعنفٍ بالغين.

والقوانين التي تُصدرها دار الاشتراع لم يرَ التاريخ لها مثيلاً بالغرابة البالغة منتهاها. فقد حرّم أحد القوانين تناول الفواكه وما تنتجه الحقول والجبال من مختلف أنواع الأزهار على مختلف أشكالها وألوانها.

فلا تستطيع يافعٌ أن تزيّن شعرها بوردة، ولا تستطيع كاعبٌ أن تضع ضمَّةً من الورود في وعاءٍ يزيّن المنزل ويبعث البهجة فيه.

كانت الأثمار الحلوة المذاق مُلكًا حلالاً لقبيلة المردة البطّاشة. فكلّ من له حقلٌ تحمل أشجاره الفواكة عليه أن يجنيها وينطلق إلى المبنى المختصّ بتلقّي هذه الفواكه التي يحملها جميع أبناء هذا الشعب المغلوب ليسلّموها إلى المسؤول عن هذا المبنى.

ومن ثُمَّ تُوزّع هذه الفواكه على أفراد القبيلة كبيرهم وصغيرهم.

فرحٌ للحظات

وأقيمت الأفراح في منزل الثريّ مادي، إذ إنَّ ابنته ناهالي ستقترن بالشاب دوباري بعد حبّ جارفٍ استمرّ عامًا كاملاً.
فهرعت الوفود إلى منزل مادي لتقديم التهنئة والاشتراك بأفراح العرس القائم على قدمٍ وساق.
وعزف العازفون، وأنشد المنشدون…. وكانت ناهالي كزهرةٍ نديّة وقد ارتدت ثوب العرس الصيفيّ، فخفقت قلوبٌ وارتعشت أفئدةٌ لصباها العجيب.

وتقدّم دوباري نحو حبيبته ناهالي وبيده تفاحة حمراء قدّمها إليها، قائلاً لها:
– إنّ حوّاء قد أَغْرَت آدم وجعلته يأكل التفّاحة. وها أنا أعكس الآية فأغريك بالتفّاحة لتأكليها.
فافترّ ثغرُ ناهالي بابتسامةٍ عذبة، وقضمت التفاحة، وناولتها إلى حبيبها فقَضَمها أيضاً، وهو جذلٌ ضاحك. فصفّق الجميع، وصاحوا معاً:
– لِيهنإ الحبيبان الفتيّان.


مأساةٌ رهيبة

وأبرق الجوّ وأرعد، وعَلَتْ ضجَّةٌ هائلة تبعتها صلصلة سيوفٍ ولعلعة أصواتٍ ثائرة غاضبة، مُرغية مُزبدة، مهتاجة مهدّدة:
– الويل لكما أيّها اللعينان.

وكانت هذه الأصواتُ المُهدّدة صادرةً عن رجال الشرطة الخفيّة من المردة وقد اندسّوا بين الحضور.
فاقتادوا العروسين المذعورين بينما كانت الصفعات تتوالى عليهما بقسوةٍ ووحشية. وأُدخل كلاهما إلى السجن. وفي اليوم الثاني حُكم عليهما بالإعدام، ونُفّذ الحكم أمام الآلاف المحتشدة لمشاهدة هذا الظلم المخيف دون أن يجرؤ أيّ منهم على التفوّه بأية عبارة احتجاج. وألقيت الجثّتان في حفرةٍ خُصّصت للمحكومين الذين يجري إعدامهم إذا ثبت أنهم تناولوا أية ثمرة من الثمرات الحلوة المذاق، أو اقتطفوا أي نوع من الأزهار واحتفظوا بها دون أن يُسلّموها إلى المسؤول عن تَسَلُّم باقات الورود وطاقات أنواع الأزهار المختلفة ليُزيِّنَ المَردَةُ بها منازلهم.


اللَّه يُمْهِلُ وَلا يُهْمِل

واستمرّ هذا الظلم أعوامًا عديدةً وسنين مديدة. وضجّت الشعوب التي تحكمها قبيلة المردة، ورفعوا ضراعتهم إلى الخالق الموجد طالبين أن ينقذهم من هذا الضيق العظيم والضّيم المقيم.
وسمع الله صلاتهم، واستجاب لدعائهم، وحقّق لهم آمالهم. حقًّا إِنَّ الله يمهل، ولا يهمل.
ففي فجر أحد الأيام ذهل الشعب المحكوم ذهولاً عظيمًا، إذ استيقظ الجميع على أصوات راعدة هادرة، ودويّ هائل يُخيفُ تَفجَّرُه الجبابرة !
فهرع المردة وهم يحملون أسلحتهم ظانّين أن العدوّ قد هاجمهم في عقر دارهم. واجتمع الألوف منهم وهم يدورون في حلقة مُفرغة إذ لا عدو يُشاهدونه، ولا مهاجم ليقطّعوه!
وفجأةً، وأمام نظر الألوف الهالعة، جعل هؤلاء المردة يتقلّصون شيئًا فشيئًا حتى أصبح كلّ منهم بحجم ذبابةٍ كبيرة، وكان يصدر منهم طنين تسمعه الآذان المرهفة !

 

الجزاء الإلهي

وسُمع صوتٌ جبروتي ملأ الآفاق، قائلاً لهم :
– لقد أحلتكم إلى نَحْلٍ، وأَذنتُ لكم أن تطوفوا الحقول والجبال والسهول تبحثون عن مختلف أنواع الأزهار لتجنوا منها عسلاً وشَهْدًا يكون طعامًا لِمَن ظُلِمَ مِمَّن كانوا تحت نيركم.
ومنذ تلك الدقيقة خُلِقَتِ النحلة التي لم تكن معروفة في عالم الأرض.
وكل من كان يحمل منهم سلاحًا تحول سلاحه إلى الحُمَة التي يلسع بها.
ومنذ تلك الهنيهة ابتدأت جماعات النحل تجوب الغابات والفيافي بحثاً عن الأزهار لتجني منها عسلاً شهيّاً.
أمّا ناهالي فبعد أن تُوفِّيَت جُعِلَت مليكة النحل يلتفّون حولها ليحموها بأرواحهم ويُقدّموا لها الغذاء الملكيّ، وهي أكبرهم جسمًا وأطولهم عُمْرًا.


الولايات المتحدة الأمريكية
الساعة الثالثة فجرا، تاريخ ٢٤/ ٤ / ١٩٧٦

الدكتور داهش
من كتاب قصص غريبة وأساطير عجيبة ” ج ١.

error: Content is protected !!