أدب الدكتور داهش

أنا

 

أنا من أنا ؟ ومَنْ كنتُ في غابر الازمانِ ؟

 

هل كنتُ قطرة ماءٍ تجوب المحيطات دون استقرار أو أمان ؟

أم كنتُ حبّة رمل تتيه في الفيافي وتعتلي قِمم الكثبانِ ؟

أم كنتُ زهرة بيلسان ، أم تراني كنت زهرةً من أقحوانِ ؟

 

أم كنتُ شجرةَ تفّاحٍ شهيّة مغروسة في جنّة الأماني ؟

أم كنت خمرةً معتّقة تُصَبُّ في الأدنان ؟

أم كنتُ عصفوراً غرّيداً على باسق الأدواح بين الأفنان ؟

 

أم كنتُ طائراً صادحاً أذوبُ وجداً من فرط الحنان ؟

أم كنتُ نهراً متدفقاً ينساب ما بين سهلٍ ووعر حتى وفي الوديان؟

أم كنت صخراً أصمّ أحيا بين الصخور باطمئنان ؟

 

أم كنتُ من ذلك المعدن الوهّاج الرنّان ؟

أم كنت حديداً صلباً أثقاله بالأطنان ؟

أم كنتُ فضاءً رحيباً أناجي النجوم وأنظر إليها بافتتان ؟

 

أم تُراني كنتُ نجماً نيّراً أتألّق في سالف الزمان ؟

أم كنتُ سماءً صافية الأديم كعِقدٍ من الجُمان ؟

أم كنتُ ملاكاً وديعاً أنشد نشيداً رائع المعاني ؟

 

أم كنتُ شيطاناً لئيماً أزرع الفسق في قلوب الغواني ؟

أم كنت نحلةُ دقيقة تزور الورود في جنّة الجنان ؟

أم كنتُ فراشةً جميلة تحوم حول الغصون الدواني ؟

 

أم كنتُ بنفسجةً حييّةً تتمنّاها كواعبُ القيان ؟

أم كنتُ نرجسةً فوّاحةً تتهافتُ عليها أسراب الحِسان ؟

أم كنتُ حديقةً ساحرة يرتادني فيها صاحب البستان ؟

 

أم كنتُ نسراً مجنّحاً أُطلق لجناحي العنان ؟

أم كنتُ سُلحفاةً بطيئةً تُسابق بسيرها مواكب الزمان ؟

أم كنتُ دوحةً رائعة يأتيها من كلّ طائر زوجان ؟

 

أم كنتُ عقرباً كريهاً أَلذع الناس بهوان ؟

أم كنتُ زجاجاً شفّافاً هَشَّمَتْه حوافر الغيلان ؟

أم تُراني كنتُ سفّاك دماءٍ ، وقاطع طريق ، وشرّ زانِ ؟

 

أم كنتُ لصّاً عنيفاً بل شريك أفّاك وجان ؟

أم كنتُ مدينة ضخمة ارتدّ عن أسوارها جيشان ؟

أم كنتُ منارةً جبّارة تهدي السبيل للحيْران ؟

 

أم كنتُ ريشةً تائهة في فضاء عالمنا الفاني ؟

أم كنت جبّاراً عنيداً وشمشون زماني ؟

أم كنتُ قدّيساً بتولاً ونورُ الإيمان هداني ؟

 

أم كنتُ عدماً رهيباً فوهبني الله كياني ؟

ويحَ قلبي ! … أين أصبحتُ الآن ، وأين محطّ أماني ؟

 نعم ، أنا من أنا ، ومن كنتُ ، واليوم هذا مكاني .

 

الدكتور داهش
من كتاب نبال ونصال
بيروت ، في منزل الرسالة ، مساء ١٤ ايار ١٩٤٤

error: Content is protected !!