أنا
أنا من أنا ؟ ومَنْ كنتُ في غابر الازمانِ ؟
هل كنتُ قطرة ماءٍ تجوب المحيطات دون استقرار أو أمان ؟
أم كنتُ حبّة رمل تتيه في الفيافي وتعتلي قِمم الكثبانِ ؟
أم كنتُ زهرة بيلسان ، أم تراني كنت زهرةً من أقحوانِ ؟
أم كنتُ شجرةَ تفّاحٍ شهيّة مغروسة في جنّة الأماني ؟
أم كنت خمرةً معتّقة تُصَبُّ في الأدنان ؟
أم كنتُ عصفوراً غرّيداً على باسق الأدواح بين الأفنان ؟
أم كنتُ طائراً صادحاً أذوبُ وجداً من فرط الحنان ؟
أم كنتُ نهراً متدفقاً ينساب ما بين سهلٍ ووعر حتى وفي الوديان؟
أم كنت صخراً أصمّ أحيا بين الصخور باطمئنان ؟
أم كنتُ من ذلك المعدن الوهّاج الرنّان ؟
أم كنت حديداً صلباً أثقاله بالأطنان ؟
أم كنتُ فضاءً رحيباً أناجي النجوم وأنظر إليها بافتتان ؟
أم تُراني كنتُ نجماً نيّراً أتألّق في سالف الزمان ؟
أم كنتُ سماءً صافية الأديم كعِقدٍ من الجُمان ؟
أم كنتُ ملاكاً وديعاً أنشد نشيداً رائع المعاني ؟
أم كنتُ شيطاناً لئيماً أزرع الفسق في قلوب الغواني ؟
أم كنت نحلةُ دقيقة تزور الورود في جنّة الجنان ؟
أم كنتُ فراشةً جميلة تحوم حول الغصون الدواني ؟
أم كنتُ بنفسجةً حييّةً تتمنّاها كواعبُ القيان ؟
أم كنتُ نرجسةً فوّاحةً تتهافتُ عليها أسراب الحِسان ؟
أم كنتُ حديقةً ساحرة يرتادني فيها صاحب البستان ؟
أم كنتُ نسراً مجنّحاً أُطلق لجناحي العنان ؟
أم كنتُ سُلحفاةً بطيئةً تُسابق بسيرها مواكب الزمان ؟
أم كنتُ دوحةً رائعة يأتيها من كلّ طائر زوجان ؟
أم كنتُ عقرباً كريهاً أَلذع الناس بهوان ؟
أم كنتُ زجاجاً شفّافاً هَشَّمَتْه حوافر الغيلان ؟
أم تُراني كنتُ سفّاك دماءٍ ، وقاطع طريق ، وشرّ زانِ ؟
أم كنتُ لصّاً عنيفاً بل شريك أفّاك وجان ؟
أم كنتُ مدينة ضخمة ارتدّ عن أسوارها جيشان ؟
أم كنتُ منارةً جبّارة تهدي السبيل للحيْران ؟
أم كنتُ ريشةً تائهة في فضاء عالمنا الفاني ؟
أم كنت جبّاراً عنيداً وشمشون زماني ؟
أم كنتُ قدّيساً بتولاً ونورُ الإيمان هداني ؟
أم كنتُ عدماً رهيباً فوهبني الله كياني ؟
ويحَ قلبي ! … أين أصبحتُ الآن ، وأين محطّ أماني ؟
نعم ، أنا من أنا ، ومن كنتُ ، واليوم هذا مكاني .
الدكتور داهش
من كتاب نبال ونصال
بيروت ، في منزل الرسالة ، مساء ١٤ ايار ١٩٤٤